28-02-2021
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
حق_تقرير_المصير. (self-determination) كان مبدأ حق تقرير المصير في جوهر اتفاقية فرساي التي وُقعت بعد الحرب العالمية الأولى، والذي يتضمن اقامة دول قومية جديدة في أوروبا بدلاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الألمانية. وفيما بعد كان هذا المبدأ أساس المطالب المناهضة للأستعمار، بمعنى الدعوة إلى إلغاء السيطرة الأوروبية الاستعمارية على أفريقيا وآسيا. معاهدة فرساي:
من السهل شن حرب على إقامة سلام"، بهذه العبارة افتتح جورج كليمنصو، الذي أطلق عليه الفرنسيون لقب "أبو السلام" المؤتمر الذي وضع نهاية للحرب العالمية الأولى.
الحرب كانت قد انتهت عملياً، قبل ذلك بشهور عديدة، بعد أن لحقت الهزيمة الكبرى بالألمان وحلفائهم، وتبين أن خروج روسيا من تلك الحرب لم يبدل من طبيعة الامور كثيراً. غير أن نهاية الحرب كانت لا تزال بحاجة الى صيغة رسمية تؤكدها. كانت بحاجة الى توقيع الأطراف المعنيين على السلام. وهذا التوقيع كان هو العمل الرئيسي لذلك المؤتمر الذي عقد في فرساي وأفتتحه جورج كليمنصو بتلك العبارة.
ومنذ تلك اللحظة، لئن كان أسم مدينة فرساي قد أرتبط بالسلام الذي تلا أنتهاء الحرب العالمية الثانية، فأنه أرتبط كذلك بالهزيمة الألمانية بحيث ان كل النازية التي أبداها الألمان بعد ذلك، وكل الانتصارات المتلاحقة التي حققها هتلر، وقادت الى أتون الحرب العالمية الثانية، نجد جذورها في ذلك اليوم التاريخي الذي شهدته مدينة فرساي القريبة من باريس..
خسرت ألمانيا الحرب العالمية الأولى، وتم توقيع معاهدة فرساي 1919 بين ألمانيا والحلفاء، وبطبيعة الحال تم معاقبة ألمانيا لمنعها من تشكيل أي تهديد مستقبلي، وبناءً على طلب من فرنسا تم إقرار عقوبات اقتصادية وسياسية مجحفة، وفقدت ألمانيا 13% من أراضيها و10% من سكانها، فضلاً عن القيود التي فرضت على الآلة العسكرية الألمانية، بالإضافة إلى تحميل ألمانيا مسؤولية الحرب وتقديم التعويضات للأطراف المتضررة.
أعتبر الألمان أن المعاهدة كانت إهانة كبرى لهم، فضلاً عن الديون الثقيلة التي ألقيت على عاتق عجلة الاقتصاد،ولقد أدت هذه الأسباب مجتمعة إلى إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية على يد المستشار الألماني أدولف هتلر، والذي كان جنديًا في الحرب العالمية الأولى، وعندما أحتل هتلر باريس ذهب إلى قصر فرساي وأمر بتوقيع اتفاقية جديدة مع الفرنسيين.
وقد أفتتح مؤتمر السلام في 18 كانون الثاني 1919، بعد شهرين من إعلان هدنة الحرب العالمية الاولى، حيث أجتمع ممثلو البلدان الـ 32 المتحاربة في فرنسا لصياغة مبادىء السلام، وذلك في غياب ممثل ألمانيا.
قاد المحادثات زعماء الدول المنتصرة الأربعة: الرئيس الأمريكي ويلسون، ورئيس المجلس الفرنسي كليمنصو، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، ورئيس الوزراء الإيطالي أورلاندو.
ناقش المؤتمر وضع أساس لعصبة الأمم، ليتم فيما بعد اعتماد الاتفاقية التأسيسية في 28 نيسان 1919. ويتعهد أعضاء الرابطة، المنتصرون والدول المحايدة، بضمان السلام العالمي.
وبسرعة ضعفت عصبة الأمم، لتكوينها الذي أستثنى الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى (ألمانيا أنضمت الى العصبة عام 1926 لتتركها في عام 1933 مثل اليابان) كما رفض الكونغرس الأمريكي التصويت لعضوية الولايات المتحدة. وبذلك لم تقدر العصبة على منع اندلاع الحرب العالمية الثانية، لتضمحل نهائياً في العام 1946 لصالح الأمم المتحدة. ولقد كان من الضروري التوصل إلى حل وسط: فكليمنصو كان عليه التخلي عن مطالبته بضم مقاطعة سار الالمانية، التي وضعت تحت أنتداب عصبة الأمم، مقابل أحتلاله للضفة اليسرى لنهر الراين لمدة خمسة عشر عاما في مقابل وعد من أنسحاب مبكر في حالة التطبيق السليم للمعاهدة من طرف ألمانيا. وكونها المسؤولة عن الحرب، فقد فقدت الإمبراطورية الالمانية سبع مساحة أراضيها جراء هذه المعاهدة، حيث حصلت بولندا بدورها على منفذ إلى البحر بمنحها دانزيغ، مع تقسيم ألمانيا إلى قسمين، وتدمير كل قوتها العسكرية، وفرض جزاءات مالية هائلة عليها.
لم يكن أمام الألمان سوى تقبل الضرر الذي جاءت به معاهدة فرساي، كونهم لم يدعوا للتفاوض وتم رفض جميع مزاعمهم، مما أجج لديهم روح الانتقام وصعود النازية، التي كانت سبباً في اندلاع الحرب العالمية الثانية. فالامر الذي لم يفهمه المشاركون في فرساي يومها، هو انه من السهل اذلال الأنظمة والأفراد والحكومات والجيوش أيضاً، ولكن اذلال الشعوب يحولها الى وحوش ضارية لا ترحم.
ومن يعود اليوم بذاكرته الى تفاصيل معاهدة فرساي وما جرى فيها، يدهشه ما سيلوح له من أن المعاهدة تبدو وكأنها ترمي الى اذلال الشعب الالماني بأسره. والشعب الالماني فهم يومها هذا، وسكت عليه، سكت عليه حتى جاء هتلر وايديولوجيته النازية، التي قامت أصلا على مبدأ الانتقام للعنصر الجرماني من مذليه. تبع الالمان هتلر حتى من دون تفكير. ومن يجد بعض المؤرخين اليوم من أن هتلر، قبل ان يكون صنيعة أي شيء آخر، كان صنيعة معاهدة فرساي.
نتائج اتِّفاقية فرساي: تمخّضت عن اتّفاقية فرساي عدّة نتائج كان لها الأثر البارز في مصيرعدّة دُول، وفيما يلي ذِكر لأهمّ هذه النتائج:1- خَفض نسبة الأراضي التابعة لألمانيا، والسكّان الألمان بما يعادل 10%. 2-أستحواذ دُول الحُلفاء على كافّة المُستعمرات الألمانية في الخارج.3- إجبار ألمانيا على دفع تعويضات مقابل الخسائر، والأضرار للدُّول الحُلفاء.4- مَنح أراضي الألزاس، واللورين للدولة الفرنسيّة.5- وَضع ولاية سارلاند تحت سيطرة عُصبة الأُمَم المُتَّحِدة حتى عام 1935م. 6-مَنح بلجيكا ثلاث مناطق صغيرة.
حتى قبل التوقيع على معاهدة فرساي ، كانت ثمة إعتراضات عليها في بريطانيا من قبل قلة من المنشقين. فإنتقدت الأحزاب المعارضة للحكومة ( حزب العمال والحزب المستقل) وثيقة المعاهدة بوصفها وثيقة سياسية مجحفة إذ كان لعدد من أعضاء حزب العمال البريطاني علاقات بالطبقة الألمانية العاملة، من ثم أدانوا المعاهدة التي إرتأوا أنها معاهدة عقوبية بالأساس.
والأكثر من ذلك أهمية النقدُ اللاذع البليغ لمعاهدة فرساي الذي نشره عام 1919 الخبير الإقتصادي «جون ماينارد كينز» صاحب "النظرية الكينزية" الشهيرة ومسؤول الخزانة البريطانية السابق والعضو الممثل لبريطانيا بمؤتمر باريس للسلام ، والذي إستقال إحتجاجاً على شروط المعاهدة الإقتصادية فندد كينز بكتابه "العواقب الإقتصادية للسلام»بالمعاهدة وصانعيها.
وكان نقده أقل حدة مع رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، والذي رأى أنه تأخر كثيراً في توجهه نحو الإعتدال، بينما وصف الرئيس الأمريكي بأنه ((رجل مثير للشفقة وقليل الفهم حيث لم تكن لديه خطة لتنفيذ مقرراته التي ظل يصرخ بها في البيت الأبيض )) أما الجزء الأكبر من تهكمه فوجهه إلى كليمنصو، الذي كان يعتبر الصراعات الأوربية وكأنها مباراة ملاكمة لا تنتهي؛ فازت بها فرنسا بهذه الجولة،لكنها بالطبع ليست الجولة الأخيرة.
وفقاً لكينز ، لم يقتصر مسعى رئيس الوزراء الفرنسي على الثأر من عدو حرب فحسب، بل سعى إلى تدمير منافس سياسي وإقتصادي تدميراً فعلياً؛ فكان ينظر للمسألة كشأن شخصي بين فرنسا وألمانيا، لا كقضية إنسانية وقضية تتعلق بصراع الحضارة الأوربية لإرساء نظام عالمي جديد. من ثم ومن منظور كينز كان مستقبل أوربا بأسرهها على المحك.
تركزت قوة هجوم كينز تحديداً على الفقرات المتصلة بتعويضات الحرب من المعاهدة وقد تأثرت ألمانيا بخسارتها شبه الكاملة لمستعمراتها وصلاتها بالخارج ، وبضياع أسطولها التجاري وأملاكها الخارجية، وعن تنازلها عن عشرة بالمائة من أراضيها وسكانها، وعن ثلث مناجمها من الفحم، وثلاث أرباع مناجمها من الحديد الخام، وبخسارة مليونين من أبنائها في مقتبل العمر ما بين جريح وقتيل، وبتجويع شعبها لأربع سنوات وبأعباء ديون الحرب الهائلة وبإنخفاض قيمة عملتها إلى أقل من السُبع، وبتمزق حلفائها وتشتُت أراضيهم، وبإندلاع ثورة داخلية، وتهديد البلشفية لها على حدودها، وبمراكز قوتها الذي لا تُعد ولا تحصى، وبأربع سنوات من الأمل في الإنتصار بحرب إبتلعت كل شي ومُنَيَت فيها بالهزيمة في النهاية.
بدا بالفعل لكينز أن صانعي السلام قد سعوا عامدين إلى تدمير ألمانيا، فيقول:
"في النهاية ان مصير ألمانيا مرتبط بمصير أووربا، ومع تعجيزها بالديون سيعاني الإقتصاد الأوروبي بأسره." لقد كانت نظرياته المستقبلية شديدة التشاؤم؛ اذ قال « نحن بصدد أن نشهد أوروبا وهي في حالة من العجز تنتشر فيها الفوضى؛ وتمزقها النزاعات الداخلية والكراهية بين دولها، و تسودها الحروب والجوع والسلب والنهب والكذب " . إن هذه الأحداث كانت سبباً مباشراً في صعود النازية وإشتعال فتيل الحرب العالمية الثانية وهو ما تنبأ به كينز.(د.ميرنا داود).