03-12-2020
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
المفروض أن يعرف الإنسان بإسمه وصورته هذه هي هوية الانسان الحقيقي :تصلني من يوم لآخر طلباتُ "صداقة" عبر صفحة الفيسبوك من أشخاص يُمكن تصنيفُهم ضمن ثلاث فئات: 1) أعرفُهم، 2) لا أعرفهم، و3) لا يمكن لي أنْ أعرفهم، أو بالأحرى "لا يحقّ" لي أنْ أعرف من هم، وكأنّ هويّة هذا "الصديق الافتراضي" أو "الصديقة الافتراضية" هي من أسرار الدّولة العظمى.
بعضهم يتبنّى ألقابا فضفاضة مثل "إعلامي حرّ"، أو"عاشق الحرية" وعندما تدخل صفحات هؤلاء المقنعين والمقنعات ، لا تجد أي معلومات تمتّ بصلة إلى هوّياتهم (شاب أو شابة، من أي بلد، من أي قارة،...) سوى بعض التهاني بأعياد الميلاد أو رأس السنة، وصور بعض الأماكن العامة، وربما حزمة ورود حمراء أو صفراء يانعة بما قد يوحي أن هذا الصديق "المستور" أو الصديقة "المستورة" من بائعي الورود في المناسبات العامة!
مثل هؤلاء يعتقدون أنهم بنوا لأنفسهم أسواراً عالية من السرّية والتعتيم من دون غاية. ولك أن تخمّن وتُعيد التخمين، وقد تستعين بكلّ الإنس والجن وربما قوى غيبية أخرى للتعرف على هذا "السرّ العظيم" قبل أن تنتهي بضرب أخماس في أسداس، فتعودَ إلى مُواصلة ماكنتَ تُريد استكمالَه في يومك.
هم يريدون التواصل معك وأنْ يظهر إسمك على صفحاتهم ضمن حلقة الأصدقاء لديهم. والمفارقة المثيرة هي أن قرارهم التواصل معك لم يكن بشكل اعتباطي أو عرضي. لقد تأمّلوا وتمعّنوا في كلّ تفاصيل صفحتك (وربما في حياتك أيضا). لكنّهم من دُعاة التّعارف والتصادق (وهذا تعبير جديد يفيد بما يسبق مرحلة الصّداقة)، لكنّه تعارفٌ وتصادقٌ من اتّجاه واحد وعلى طريقة طرف دون الآخر، يا سلام...!
وهنا يكمن التصادم التاريخي ليس بمفهوم العظمة والإنجاز حسبما يؤرّخ للتاريخ، بل بمفهوم هول الضربة التي يتلقاها مخترع الفيسبوك مارك زوكربيرغ الذي اختار إسم Facebook أو لنقل بالترجمة الحرفية المباشرة "كتاب الوجه"). كان هذا المخترع يطمح لتطوير شبكة تعارف بين زملائه في جامعة هارفارد بعد نجاح برنامجه الأولي Facemash عام 2002 تجسيدا لحسّه الاجتماعي في ذروة الثورة الرقمية، ولكنه لم يتوقع يوما أنه سيتم كسر عنق هذه الاختراع على يد أنصار القناع الإلكتروني!
فما الغاية إذن من طلب صداقة أحد عبر الفيسبوك إذا كان طرفٌ يظلُّ تحت الأضواء الكاشفة فيما يتمسّك الطرفُ الآخر بالبقاء في منطقة العتمة والسّرية والتواصل من داخل الظلام الافتراضي؟ ما المقصود أن تتبنى هذه الوسيلة الحديثة للتواصل مع الآخرين إذا كُنتَ لا تقبلُ أبسطَ أبجديات "كتاب الوجه" الذي يفترض أن يكون لكل فيسبوكي إسمٌ ووجهٌ وملامحُ معينة؟
إذا كان هؤلاء المحتشمون المتستّرون والمحتشمات المتستّرات على أسمائهم ووجوههم يعتبرون أنفسهم من أبناء وبنات هذا العصر أو من الحداثيين (أي أنّهم يعيشون في العصر الحديث وليس في القرون الوسطى، ولا تسأل عن فهمهم للحداثة وهذا موضوع آخر)، فلماذا يعارضون ديمقراطية الفيسبوك: لكل فيسبوكي رأيٌ، ولكل فيسبوكي وجهٌ وملامحُ!
إذا كان هذا هو واقع الحال هذه الأيام، فأنا لا أسمح لنفسي أن أقتحم خلوة وسرّية المقنعين والمقنعات. فهل سيراعي هؤلاء آداب التواصل الفيسبوكي عندما يطلبون صداقتي؟(د.ميرنا داود).