22-11-2020
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
ومهما يكن الرأي في فلسفة ديكارت فان أهل الفكر والفلسفة في الغرب يكاد يتفقون على إن ديكارت هو من أكبر فرسان الفلسفة ليس في فرنسا وحدها بل هو "أب" الفلسفة الغربية على الإطلاق ، ورائداً للحركة (( العقلانية )) الغربية في العصر الحديث .. ذلك إن ديكارت هو من وضع القاعدة المنهجية المشهورة والتي أرست صرح العقلانية الحديثة : (( يجب أن لا أقبل شيئاً قط على انه حق ما لم يتبين لي ببداهة العقل انه كذلك ، ويجب أن لا أحكم على الأشياء إلا بما يمثله ذهني في وضوح وتميز ينتفي معهما كل سبيل إلى الشك)) متخطياً بذلك المعرفة السابقة جاعلاً هدفه المستمر ، الوضوح ، سواء في رؤية أعماله أم السير في حياته .. ولأجل تحقيق هدفه السامي هذا لابد من التوسل بالعلم الذي يمكن الإنسان من ترويض الطبيعة ومواجهة الصعاب بقدرة وقوة تعينه على قهرالإلغاء.
أولى القواعد التي يقوم عليها المنهج الديكارتي في التفكير، هي “البداهة” والتي تنص على ضرورة التجرد من الأفكار المسبقة، أي إن الإنسان عليه التخلي عن كافة المعلومات أو النظريات التي يعرفها عن أمر ما والسعي لمعرفة الحقائق بنفسه، فوفقاً لقواعد المنهج الديكارتي فإن معلوماتنا السابقة والتي نعتبرها بمثابة مسلمات، ما هي سوى قيود تغل العقل البشري وتعوقه عن التفكير، ولهذا فإن الخطوة الأولى تتمثل في تحرير العقل من تلك القيود. أما القاعدة الثانية التي جاء بها المنهج الديكارتي ،فهي تبسيط وتقسيم المعضلة العقلية بغية حلها، وإن تقسيمها ما هو إلا وسيلة تسهل عملية التحليل لنتمكن من الوصول إلى النتائج، وبعد إجراء ذلك التبسيط على الإنسان أن يقوم بإعادة ترتيب أفكاره، على أن يكون ذلك تدريجيا من الأبسط إلى الأعقد، ومن ثم يمكنه التوصل إلى الحلول المثلى لكل جزء من أجزاء المشكلة العقلية، بدءاً بأبسطها ووصولاً إلى أعقدها وأشدها صعوبة، وبنهاية تلك المرحلة يكون الإنسان قد تمكن من حل المشكلة بصورة كاملة.هذا ملخص موجز للنظرية وسوف أقوم بشرح تفصيلي لاحقا.
لم يكن ما يشغل ديكارت في سرده لرحلة الشك هو رغبته في الانتقال من قلق الشك إلى اطمئنان اليقين ولكنه كان يهدف إلى بناء المعرفة العلمية. ولكن ما الهدف من المعرفة؟ لماذا يبذل المرء الوقت والجهد والمال من أجل المعرفة؟ يرى أرسطو أن الهدف هو الحكمة, والحكمة تؤدي إلي الرضا والسعادة, ويرى فلاسفة العصور الوسطى أن هدفها هو المساهمة في سعي الانسان للفوز بالنجاة في الحياة الآخرة. أما ديكارت فقد جعل للمعرفة هدفا جديدا هو السيطرة على الطبيعة, وزيادة رفاهية الانسان, مثله في ذلك مثل معاصره الانجليزي فرنسيس بيكون القائل:"المعرفة قوة".
لقد اخترع ديكارت علم الهندسة التحليلية وكتب كتبا كثيرة فلسفية وعلمية, ولكن يظل كتابه' مقال عن المنهج' يفيض بتلك الروح الحية النابضة التي تسعى لتحرير العقل أكثر مما تسعي لاقرار الحقيقة. لقد مضى على ديكارت أكثر من أربعة قرون, ولكن ما إن احتل موضوع الحداثة موقعه المهم في الفكر العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين, حتى تصدر ديكارت من جديد مقدمة المشهد. فقد عدت فلسفة ديكارت هي إشارة البدء في مشروع الحداثة, وهي المحددة لنوعية الانجازات التي تمت خلال الأربعة قرون التالية عليها.
ويرى معظم فلاسفة العصر الحديث أن ديكارت هو مفتاح الحداثة: توصيف جديد لمكانة الفكر الديكارتي بما له وما عليه! فديكارت هو الذي صاغ الدور المركزي للذات الانسانية في تأسيس المعرفة. وهو من أطلق عملية الثقة بالعقل والثقة في قدرته على اكتشاف الحقيقة, بل وعلى تأسيس الأخلاق. و لعل العقلانية التي تسود اليوم عالم السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية قد انطلقت من فلسفة ديكارت بحسب بعض الفلاسفة المعاصرين.
كان ديكارت يرى أن الوجود ينقسم إلي جوهرين مختلفين وهما الفكر والمادة, وهو ما يطلق عليه تسمية "الثنائية الديكارتية". وقد أدت هذه النظرة إلى التقليل من قيمة العمل اليدوي عند البعض وتقدير العمل الذهني وهم قلة أساءت فهم النظرية, كما أدت إلى الفصل بين الأمراض النفسية والبدنية, وقد اعتبر ديكارت أن الانسان هو الكائن الحي الوحيد المزود بنفس خالدة أما الحيوانات فهي مجرد آلات, وهي النظرة التي جعلت البعض لايبالي تجاه معاناة الحيوان, ولايزعجه انقراضه ولا حتى ابادته وهذه فئة من الناس وليس كل الناس.
يعتمد منهج ديكارت على البدء بالحقائق الواضحة البديهية, وعلى تحليل الظاهرة المركبة إلى عناصر بسيطة حتي يمكن للعقل فهمها بوضوح. ولقد أدى هذا المنهج بالفعل إلى انجازات كبيرة وإلى زيادة سلطة الانسان: ألم يكن يتم النظر إلى الجسم الحي كوحدة واحدة متكاملة, ولكن بسبب النزعة التحليلية الديكارتية تم رده إلى مجموعة أجهزة, وتم رد الأجهزة إلى أنسجة وتم تحليل الأنسجة إلي خلايا, وهذه إلى جينات وكروموزومات, والجينات إلى أحماض. هذا هو المسار الذي رسمه ديكارت للعلم وهو ما يسمي "بالنظرة الاختزالية" أي رد المركب إلى البسيط. ومن هنا فإن المنزعجين من التدهور الذي حدث للبيئة يشنون على ديكارت حملة شعواء, ويحملونه المسؤولية مضاعفة: مرة لأنه جعل هدف المعرفة هو السيطرة على الطبيعة مما زود الانسان بنوع من العدوانية تجاه هذه الطبيعة وعدم المبالاة بتدميرها, ومرة ثانية لترويجه لهذه النظرة الاختزالية التي تعمي عن رؤية العلاقات الكلية بين الكائن الحي ومحيطه البيئي.
لست هنا بصدد محاكمة ديكارت فلكل نظرية ومنهج فلسفي ما له وما عليه ولكن أسعى لبيان أهمية دوره في تطور مسار الفكر الفلسفي الحديث. لقد أصبحت فلسفته محورا للفلسفة الحديثة فقد تبنى فلاسفة كبار مثل اسبينوزا في هولندا وليبنتز في ألمانيا, منهجه وسعوا لتطبيقه في مجالات محتلفة, بينما حاول آخرون بلورة منهج بديل لمنهجه مثل جون لوك في انجلترا وهيغل في ألمانيا. وفي النهاية أخلص الى أن عبارة ديكارت' أنا أفكر إذا أنا موجود' تبقى محفزا متجددا على التأمل في كل ما حولنا سواء أتفقنا أو أختلفنا معه!
أبرز الأخبار