مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

ديغول القائد في لحظة الحقيقة

08-05-2020

آفــاق

الدكتورة ميرنا داوود

أستاذة جامعية وكاتبة

ديغول بطل التحرير كما يحلو للفرنسيين تسميته وهو الرجل الذي بنى فرنسا الحديثة بعد أن أنقذها من براثن الاحتلال النازي ، ما زال يمثل شخصية القائد في العصر الفرنسي الحديث ولا يتردد البعض في القول بأنه آخر فرنسي عظيم أو أحد الخمسة الكبار في تاريخ فرنسا على مر العصور ، والمعروف أن ديغول كان منذ صغره ميالاً إلى التمرد والمعارضة ، وكان ذا شخصية متميزة مما أتاح له لاحقا امتلاك سمات الزعامة والقيادة ، "لأن الشخص الذي لا يتجرأ على أن يقول لا في الوقت المناسب ، لا يمكن أن يصبح قائداً" ، هكذا اعتاد ان يردد .

دخل ديغول الجيش وتخرج ضابطاً من كلية سان سير العسكرية الشهيرة  وخاض غمار الحرب العالمية الأولى سنة 1914 حيث كان في الرابعة والعشرين من عمره آنذاك ، وقد جرح أثناء الحرب وكان قائده آنذاك فيليب بيتان حيث تم لقائهما بعدئذ بطريقة معاكسة أثناء الحرب العالمية الثانية ، والواقع أنهما اتخذا موقفين متناقضين تماماً ، على عكس ما حصل أثناء الحرب العالمية الأولى ، فالماريشال بيتان تعامل مع الألمان وأصبح رئيساً للبلاد في ظل الاحتلال النازي بعد أن خضع لهتلر وصافحه تلك المصافحة الشهيرة وسلمه باريس على طبق من ذهب ، في حين كان ديغول العدو اللدود للاحتلال النازي وقد رفض الاعتراف بهزيمة فرنسا ، وقال لا للنازية والفاشية في ندائه الشهير الذي وجهه إلى الشعب الفرنسي عبر أثير راديو لندن بتاريخ 18 (حزيران) 1940 ، وبدءاً من تلك اللحظة أصبح رمزاً وقائداً لفرنسا الحرة.

في البدء كانت الكلمة ومن قال بأن الكلام لا يفيد؟ ولكن ليس أي كلام ينبغي أن تتجرأ عليه وأن تخاطر بنفسك في اللحظة المناسبة ، فهناك كلام له معنى وهناك ثرثرات أو لغو الكلام ، وفيه وردت تلك العبارة: "لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب. شعلة المقاومة الفرنسية لم تنطفئ ولن تنطفئ أبدا" ، ودعا ديغول الفرنسيين إلى مقاومة المحتل النازي بشتى الوسائل، وعدم الخنوع والاستسلام. ففرنسا لم تعرف ذلاً في حياتها كلها كما عرفته في ذلك الوقت. فقد راح هتلر يتبختر في جادة الشانزلزيه مزهواً أو تحت برج إيفل وهو محاط بجنرالاته الفاتحين متوعداً "بأن يجعل فرنسا تدفع ثمن معاهدة فرساي وما الحقته من اذى لالمانيا بخسارتها جزءاً كبيراً من اراضيها وتحدثت عن هذا الموضوع في مقالة سابقة" بعد أن انتصر على العدو التاريخي ومرغ كرامته في الوحل. 

المهم أن ديغول انتصر على هتلر في نهاية المطاف وعاد إلى فرنسا محرراً ظافراً وقد تسلم حكم البلاد لمدة عامين بين سنتي 1944 – 1946 ، لكنه ترك السلطة بعدئذ من تلقاء ذاته ، عندما وجد أن الأحزاب الفرنسية وكذلك الشخصيات السياسية تتصارع على المكاسب والمصالح الشخصية وتنسى المصلحة العامة للبلاد. قال عندئذ، كلمته الشهيرة أمام وزرائه قبل أن يترك الحكم مباشرة: "أيها السادة، لا يمكن للمرء أن يكون رجل الأعاصير الكبرى ورجل السخافات الصغيرة في آن واحد ، أنا شارل ديغول ولست سياسياً عادياً ، وبالتالي سوف أترك الحكم بدءاً من هذه اللحظة، لأنني لا أستطيع أن أنفذ سياستي لمصلحة الوطن في مثل هذه الظروف الدنيئة". وكان ديغول يقصد بعبارته السابقة أنه قاد فرنسا في زمن الإعصار عندما كانت محتلة من قبل الألمان ، وبالتالي فلا يستطيع أن ينحدر إلى مستوى التافهين الصغار الذين يتنافسون على القشور والمناصب والمكاسب.

وعاد الجنرال ديغول إلى قريته لكي يعيش إنسانا عاديا ، ثم ليتفرغ للتأمل والتفكير وكتابة مذكراته ، وقد كان مفكراً حقيقياً جمع بين مجد القلم ومجد السيف  ومن قرأ مذكراته يعرف تماماً ما الذي اقصده بكلامي فهو يتمتع بحس أدبي لا يستهان به ، وهذه الفترة من حياته تدعى فترة عبور الصحراء أي فترة الابتعاد عن السياسة أو الحرمان من السلطة ، وقد استمرت مدة اثني عشر عاما ، أي منذ عام 1946 إلى عام 1958 ، تاريخ عودته إلى الحكم وتأسيسه للنظام الجديد المدعو بنظام الجمهورية الخامسة وهو النظام الذي ما يزال سائداً إلى الآن.

في فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر كان معظم السياسيين الفرنسيين يطلقون عليها لقب الجزائر الفرنسية. وينبغي الاعتراف بأن أغلبية الشعب كانت معهم ، وعندئذ وقع ديغول في صدام مع الجميع تقريبا ً، وخاصة مع اليمين المتطرف ومنظمة الجيش السري الرهيبة التي حاولت اغتياله أكثر من مرة ونجا منها بأعجوبة. واستطاع أن ينتصر عليهم في نهاية المطاف ، وينسحب من الجزائر ويعيد لفرنسا مجدها وهيبتها الدولية وكرامتها التي مرغها الاستعماريون في الوحل ، وأثبت ديغول أنه شخصية تاريخية قادرة على مواجهة الأعاصير والأزمات الكبرى بكل رباطة جأش. 

وعلى كل الأحوال فإن مشكلة الجزائر أرعبته وكسرت ظهره أكثر من هتلر والاحتلال النازي لباريس ، فمن يصدق ذلك؟ السبب هو أنه في الحالة الثانية اي حالة الجزائر، فقد كان في صدام مع عدو خارجي ، أما في الحالة الأولى فكان صدامه مع عدو داخلي ، أي مع الفرنسيين أنفسهم أو قسم كبير منهم ، فقد كانوا متعلقين جداً بالجزائر ومتشبثين بها كحق من حقوقهم ، لذلك أتهموا ديغول بالخيانة والتفريط بالأرض الفرنسية والتراب الوطني. هكذا وجد نفسه في في متاهة حقيقية كما يقال ولكن القائد التاريخي ليس ذلك الذي يتبع الشعب أو يمشي خلفه بطريقة عمياء في كل شيء ، وإنما ذلك الذي يتجرأ على أن يقول لا حتى للشعب نفسه ، هنا تكمن عظمة ديغول في الواقع من دون أن نقلل من عظمته إبان الحرب العالمية الثانية في مواجهة النازيين. فالصراع مع الداخل (أي مع الذات)، من أخطر أنواع الصراعات إن لم يكن أخطرها على الاطلاق. بمعنى آخر، فقد كان ديغول متنوراً متبصراً يرى أبعد من أنفه. وهنا تكمن السمة الأساسية للقادة الكبار. هنا يكمن الفرق بين القائد التاريخي وبين المسيسين الانتهازيين الصغار. 

 

فيما بعد ، أدرك الشعب الفرنسي أن زعيمهم كان على حق في موقفه متبصر ، وأنه كان يعمل لمصلحة الشعب العليا ، وهذا الجانب نادراً أن يتحدث عنه أحد ، رغم أنه في رأيي أكبر دليل على عظمة الرجل فالعظمة ليست أن تكون ضد الآخرين (هذا شيء سهل)، وإنما ضد نفسك عندما يتطلب الأمر والمصلحة العامة ، فالعظمة هي أن تكون ضد جماعتك وطائفتك وعصبيتك إذا لزم الأمر، وليس ضد العصبيات الأخرى لأن هذا شيء غريزي وسهل وتحصيل حاصل ، فمتى سيدرك المثقفون المتنورون في بلادي هذه الحقيقة؟

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما