مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

لا يأسفن احد علينا نحن ننتحر بملء ارادتنا

15-08-2019

تقارير

يوسف ي. الخوري

مخرج ومنتج لبناني

ُشغلوننا بعنوان تعبويّ وأنتم جاهلون لجوهر الموضوع. تُريدون استعادة حقوق المسيحيين ظنًّا منكم أنّها كانت موجودة وأمّنت حصانةً لهم في لبنان، بينما الحقيقة في مكان آخر تمامًا؛ فالمسيحيّون لم يشحذوا يومًا حقوقًا من أحد، بل استحقّوها بجدارتهم في الإدارة, وتفوّقهم في العلم والمعرفة, وتحوّلهم السريع من المهن الحرفيّة والزراعة والصناعات التقليدية إلى الصناعات الحديثة كالمصارف وشركات التأمين الكبرى، إضافة إلى تأقلمهم مع حركة الاقتصاد الليبرالي الصاعدة في لبنان خلال ثلاثينيات وأربعينيّات القرن الماضي.

إن أصدق توصيف لأسباب أفول دور المسيحيين في الدولة اللبنانية جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه البابا فرنسيس في روما بتاريخ 9 حزيران 2015, حين عبّر قداسته عن تخوّفه من سقوط الصيغة اللبنانية إذ تتقلّص صلاحيّات المسيحيين أكثر فأكثر ويومًا بعد يوم، وسمع التوضيح التالي من بوتين: "المسيحيون في لبنان لا يعرفون سبب علّتهم، فهم يطالبون بحقوق وصلاحيات لم تكن يومًا لهم، وما تحقّقَ في الماضي حضورهم الوطني والسياسي إلا لأنّهم أمسكوا  بمفاصل الاقتصاد في البلاد، واستملكوا الحصص الأكبر في القطاع المصرفي، حتى جاء الرئيس رفيق الحريري بوعيٍ وفهمٍ كاملين لمصدر قوّة المسيحيين، فانتزعها منهم لصالح السنّة وهذا ما أضعفهم."

كلام بوتين هذا لم يكن عشوائيًّا، ولنا فيه مطالعة مسهبة لا مجال لنشرها في هذا المكان، لكن لتوضيحه سنكتفي بإظهار ثلاثة عوامل أساسية أدّت إلى ضعف الحضور المسيحي في الكيان اللبناني وهي: نقض الميثاق الوطني معهم، وتغيُّبهم عن الإدارة، واضمحلال قوّتهم الاقتصادية. 

نقض الميثاق:

إن الميثاق الوطني اللبناني هو تفاهم يقضي بتخلّي مسيحيّي لبنان عن ميلهم للغرب، مقابل أن يتخلّى مسلموه عن فكرة الوحدة مع سوريا، وهو أيضًا يجمع بين نظرتين مختلفتين لأصول اللبنانيين، إحداهما تقول بعروبة الشعب اللبناني وخلفها المسلمون، بينما الثانية التي خلفها أكثرية المسيحيّين تقول بفينيقيّته. استُخرج هذا التفاهم الميثاق من بيان حكومة الاستقلال الأولى برئاسة رياض الصلح الذي جاء فيه: "لبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب".

ساهم الميثاق بتهدئة السجال القائم، كما إنّه ميّز لبنان بخصوصية فريدة -العيش المشترك - وأطلق عجلة الاستقلال، لكنّه لم يحسم موضوع الانتماء للبنان الوطن، عدا عن أنّه لم يأخذ شكلًا قانونيًّا أو دستوريّا مُلزمًا، وهما الأمران اللذان أفسحا المجال لاحقًا للصراعات القومية والمُناكفة العقائدية الحزبية وأيضًا المذهبية، حتى انفجرت حرب الـ 1975 التي زعزعت الميثاق واعادت إلى الواجهة قضيّة الانتماء، ليأتي دستور الطائف بعدها ويودي بصيغة لبنان الميثاقية، إذ حسم في مقدّمته هوية لبنان وثبّت أنّ "لبنان هو عربي الهوية والانتماء"، متنكّرًا بذلك لأصحاب الاعتقاد بفينيقية شعبه حتى بات هؤلاء – وغالبيتهم من المسيحيين - يشعرون في لا وعيهم بهزيمة وجدانية على مستوى الانتماء، وأخرى وطنية على مستوى الشراكة التي بعدما كانت ندّيّة بين المسلمين والمسيحيين صارت وكأنّها تطبيق لما جاء في سورة [آل عمران: 28] "لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ..."، فما عادت شرعيّة حكم المسيحي تقوم في لبنان إلا إذا كانت مستمدّة من شراكة المسلم له ورضاه عليه [وائل خير، "الورقة الأخيرة": ص. 16]، وهذا الانتصار للمسلمين تترجم فيما بعد بعلّة العلّات وبدعة البدائع " الديمقراطية التوافقية" التي أنهت التراتبية في الحكم وشلّت عمل الدولة لتعيش البلاد في فراغ معظم الأوقات. طَعْنُ المسيحيين بما يؤمنون به على مستويي الانتماء والشراكة طال بلا شك حريّتهم، وهؤلاء لا يعرفون معنى للحياة من دون حرية، فبدأت عمليّة تخلّيهم اللاإرادي عن لبنان الوطن، فهاجر أكثر من ثلث عددهم في أقل من ثلاثين سنة ومن بقي منهم التجأ يحنمي في كنف طائفته بانتظار فرصته للرحيل.

تغيُّبُهم عن الإدارة؛ خطأ جسيم وجهل لوقائع التاريخ:

بعيد إعلان "لبنان الكبير" شكّل المسيحيون قوة الجذب والتأثير بسبب اجادتهم في التعليم والمهن والزراعة والاقتصاد. أما تفوّقهم في الإدارة فحلّ بديهيًا في زمن الانتداب نظرًا لأسبقيتهم في العلم والمعرفة، ولممارستهم الواسعة في مجلس ادارة متصرّفية جبل لبنان، ولعلاقتهم التاريخية بالفرنسيين. ويُدرك الباحثون في التاريخ ان الأمر الأساس في تعزيز مكانة المسيحيين في الإدارة هو انكفاء المسلمين عن التعاون مع كيان لبناني جديد خارج اطار الوحدة بين ما كان يُعرف بالولايات السورية العثمانيّة، وقد استمر هذا الانكفاء حتى مطلع أربعينيّات القرن الماضي.  

بُعيد تثبيت هويّة "لبنان العربية" في دستور الطائف وتنكُّر المسلمين للشراكة الندّية مع المسيحيين، تولّى المسيحيون – كمن يُطلق رصاصة على رجله – طعن نفسهم بنفسهم لما بدأوا مقاطعة الانتخابات النيابية منذ العام 1992، ومن ثمّ زاولوا الانسحاب تدريجيًّا من مؤسسات الدولة لأنّ هذه الدولة لم تعُد تدغدغ وجدانهم، ولم تلتزم بتنفيذ اتفاق الطائف في ما يتعلّق بنزع سلاح الميليشيا الأصولية المسلمة التي لا يتردد أسيادها في إعلان حلمهم بان يُصبح لبنان دولة إسلامية، ناهيك عن وصاية أمنية سورية - لبنانيّة تمعن تنكيلًا بشبابهم.

أمران عمّقا هوّة انهزام المسيحيين؛ الأول هو أنّهم لم يتعلّموا من التاريخ القريب أن مقاطعة المسلمين للدولة كانت العامل الأبرز في تصاعد دور المسيحيين الريادي في هذا البلد، وارتكبوا هم نفس الخطأ بعد الطائف. والثاني والأهم هو غياب رجال الدولة وأصحاب الرؤى الوطنيّة من بين المسيحيين، مُضافًا إليه انّهم لم يجهدوا بما بقي لهّم من هامش مبادرة بعد الطائف لخلق زعامات جديدة بعد زج أحد زعيميهما في السجن ونفيّ الآخر، بل اكتفوا بالنضال لأجل عودة زعيميهما المبعدين قصرًا، وهما الزعيمان اللذان بسبب قلّة خبرتهما السياسية وتعاركهما داخل البيت الواحد سقطت آخر بندقية مقاومة مسيحية في هذا الشرق، ووقعت مقصلة الطائف على المجتمع المسيحي ككل. صحيح أن إرادة المسيحيين نجحت في تحرير الزعيمين من المصيرين اللذين حلّا بهما، لكنها بتحريرهما أعادت الشرذمة والخلافات البغيضة غير المُجدية إلى داخل البيت، حيث حلّ الانقسام من جديد، ومن بعده الضعف حتمًا حتى فقد المسيحيون بتحزّباتهم العمياء عاملَي الجذب والتأثير اللذين استأثر بهما مع الوقت مكوّنان آخران على الساحة اللبنانية، عنينا بهما السنّة والشيعة، وذلك من خلال سيطرتهما على الإدارة. 

اضمحلال قوّة المسيحيين الاقتصادية:

للمال ورجال الأعمال تأثير على السياسة والسياسيين في لبنان، وهذا الحقيقة متكشّفة منذ زمان ميشال شيحا الذي؛ بالرغم من نظرته المتعالية إلى الإقطاع السياسي في كتاباته، فقد أرسى نظامًا يُحالف بين أصحاب المال والطبقات الحاكمة، بحيث أصبحت مصالح التجّار المنتمين إلى طوائف مختلفة مرتبطة دومًا بعمل السياسيين، فشيحا شخصيًا كان يستعمل سلطة المال في الحملات الانتخابية، وكان بنكه فرعون وشيحا يدفع مبالغ بشكل دوري لأكثر من نصف أعضاء البرلمان، حتى أصبح هذا البنك "المسيّر الفعلي لسياسة الدولة الاقتصادية ومقرر تشريعاتها الضريبية"، لدرجة أن مرّةً اقترح النائب يوسف الخازن – المعروف بطرافته – افتتاح جلسات البرلمان بـ "اسم مصرف فرعون وشيحا" لا "باسم الشعب اللبناني". في موازاة ذلك، وبالتحديد بين العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، أصبحت بيروت المركز المالي الأحدث والأسرع نموًّا في العالم من خلال نشاط مصارفها المتصاعد، وقد أثّر أصحاب المصارف - وغالبيتهم الساحقة من أثرياء المسيحيين - في سياسة واقتصاد لبنان، وعلى غرار ميشال شيحا كانوا يموّلون الحملات الانتخابية التي بلغت نسبة الانفاق عليها حدّها الأعلى في العالم حتى وصلت إلى ضعف ما يُنفقه المرشحون الأميركيون في انتخابات الكونغرس كما ورد عام 1972 في كتاب Michael Hudson  المعنوَن The Precious Republic –Political Modernization in Lebanon. وقبل العام 1975 كان الاقتصاد اللبناني مبنيًّا على التبادل التجاري وممسوكًا من ثلاثين عائلة تربّعت عرش "البورجوازية التجارية المالية الصناعية"، وكانت تمارس نفوذها بالالتفاف حول رئاسة الجمهورية، وبإدخال ممثلين عنها إلى البرلمان للتحكّم بالتشريع والموازنة، وإلى الحكومات للسيطرة على السياسات الضريبية والعلاقات الخارجية.  وحول التركيبة الطائفية للعائلات التجارية الثلاثين؛ كان من بينها 24 عائلة مسيحية و6 مسلمة، ما أعطى تفوقًا للمسيحيين في الاقتصاد وبالتالي في السياسة طيلة عصر لبنان الذهبي.

بعيد الطائف تحوّل ميزان القوّة إلى السنّة، إذ لم يغب عن هؤلاء تأثير المال والاقتصاد للامساك بزمام الأمور في لبنان، فأتى الرئيس رفيق الحريري بخطة - يغلب الظن بأنّها منهجية – نجحت بانتزاع قوّة المسيحيين الاقتصادية التي قال الرئيس بوتين للبابا أنها القوة السياسية الفعلية في لبنان. ويرى جورج قرم [Le Liban Contemporain – Histoire et société: p. 226] أن "الحريري نفسه ثابر في سنوات الحرب على امتلاك كل ما هو للبيع بسعر جيّد: مصارف، شركات تأمين، متاجر كبرى، أراض ممتازة في الأحياء البيروتيّة الجميلة". ولا شك أن الحريري أحيا في فترة حكمه مفهوم ميشال شيحا للإمساك بالبلد، إذ كان يُنفق بسخاء على حملاته الانتخابية للسيطرة على البرلمان، وقد بلغت نسب الرشوة والمحسوبية والمحاصصة مستويات غير مسبوقة في عهده، حتى كاد يختصر بشخصه كل القوى الاقتصادية والمصرفية التي حكمت لبنان منذ الاستقلال حتى عشية حرب 1975. ولتسهيل سيطرته على الاقتصاد ما كان يرضى الحريري إلا بوزراء من المقرّبين منه أو ممن لا يعارضونه، ولتمرير الأخطاء وتوزيع الحصص لإسكات الطبقة الحاكمة، ألغى دور ديوان المحاسبة في مرحلة إعادة إعمار بيروت أي في مرحلة أُنفقت فيها مليارات الدولارات وتحتاج لمراقبة المناقصات بشدّة خلالها، كما همّش واجبات التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية ووضع يده على مجلس الإنماء والإعمار تاركًا لزعماء الشيعة مجلس الجنوب وللدروز صندوق المهجرين، فتحوّلت هذه الصناديق من مساعدة ضحايا الحروب إلى حصص يتقاسمها أهل الحكم [كمال ديب، أمراء الحرب وتجار الهيكل - دار النهار، صفحة 544 – 545]. أما البنوك التي كان لها هامش تحرّك واسع وحرّ بمعزل عن المصرف المركزي، بدأت منذ عهد الحريري الأول تتحوّل إلى كتلة موحّدة يحرّكها المصرف المركزي بسياساته وقراراته ضمن منظومة "أنا أدير وأحقق لكم أرباحًا إضافية"، مع الإشارة إلى أن حصّة المسيحيين في ملكية البنوك اللبنانية لم تعد الأكبر وتوزّعت بين تجمّعات مالية وبنوك عربية وأجنبية – لاسيما أميركية – وعائلات وأفراد لبنانيين نسبتهم الأكبر من السنّة.  

اختصارًا، هذا ما قاله الرئيس بوتين للبابا فرنسيس، وهذا ما أوضِحُه أنا للـ "جهابظهة" الذين يُصدّقون أنّهم يتحرّكون ولا ينامون في سبيل استعادة حقوق المسيحيين.  ولهؤلاء أقول أيضًا: اتّعَظوا وصحّحوا توجيه بوصلتكم وأوقفوا "التخبيص".

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما