29-03-2019
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
وكان النقد الأدبي أحد المجالات التي تناولت هذا المفهوم على نطاق واسع فبعد الحرب العالمية الثانية فقد العديد من المثقفين والفنانين في أوروبا إيمانهم بالحداثة التي ارتبطت لديهم بالهوية واليقين والسلطة ، لتظهر موجة بعدها سميت بما بعد الحداثة للتعبير عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية ، من سماتها الشعور بالإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة.
غير أن معاني هذا المصطلح ودلالاته لم تكن واضحة تماما ولهذا فإن وضع تعريف واحد وثابت لنظرية ما بعد الحداثة أو فكره أو زمنه أو ثقافته يعد تناقضا مع أهداف هذا الفكر الذي كثيرا ما يبني تصوراته بعيدا عن فكرة التحديد ، بل إنه في جوهره كثير الهروب من الطرق الفلسفية في التفكير التي تحدد ماهية الأشياء ، فهو نابع من تحول تاريخي شهده الغرب صوب عالم جديد يسيطرعليه الرأسمالية التي لا زالت تتطلع إلى عالم تكنولوجي ذو نزعة استهلاكية كما أنه مفهوم يدل أيضا على الانفصال عن الماضي والتوجه نحو مستقبل لم نشهد له مثيلاً من قبل لذلك فان فكر ما بعد الحداثة يُوصف بأنه فكر جمالي يُعلي من شأن القيم الجمالية بوصفها بديلاً معاصراً للعقلانية.
إن صعوبة تحديد ما بعد الحداثة كمفهوم تنبع من استخدامه على نطاق واسع في مجموعة من الحركات الثقافية منذ السبعينيات حيث أن ما بعد الحداثة لا تصف فترة بعينها فحسب ، بل مجموعة من الأفكار ولا يمكن لنا فهمها إلا بالرجوع لمصطلح آخر له نفس القدر من التعقيد وهو الحداثة.
كانت الحداثة فناً وحركة ثقافية متنوعة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان موضوعها المشترك هو كسر التقاليد. ويُفهم معنى ما بعد الحداثة على أنه التشكيك في الأفكار والقيم المرتبطة بأشكال الحداثة التي تؤمن بالتقدم والابتكار، حيث تصر الحداثة على وجود فجوة واضحة بين الفن والثقافة الشعبية، بينما لا تخصص ما بعد الحداثة نمطا واحدا من الفن أو الثقافة، بل إنها ترتبط بالتعددية والتخلي عن الأفكار التقليدية للأصالة.
كانت مرحلة ما بعد الحداثة لجيل نهاية الستينات وبداية السبعينات نوعاً من نفي لمرحلة الحداثة ، كما كان حال سابقتها مرحلة الحداثة بأفكارها الكبرى التي تفسّر العالم وتنظمه. لقد أسقطت ما بعد الحداثة كل تلك الحقائق الكبرى والشاملة بما في ذلك الاشتراكيّة وفكرة التقدم وحتى مفهوم التاريخ ذاته ، دون أن تنجح يوماً في أن تطرح نفسها في قالب واحد خارج النفي ، حتى وصفها أحد المفكرين بأنها فقدان تام للعلاقة مع الإطار التاريخي على نحو يتسم بكثير من انعدام العمق وانتفاء المعنى وانحسار العواطف ، وأعتبرها البعض بأنها إفلاس المنطق الثقافي للرأسماليّة المتأخرّة.
وعلى الرغم من ذلك فإن أحداثاً مثل سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي والألفيّة الثالثة كانت تشير بوضوحٍ إلى أن العالم بصدد إعادة ترتيب أوراقه على نحو جديد ، وأن قاطرة مرحلة ما بعد الحداثة قد فقدت قوتها الدّافعة ولم تعد بقادرة على دفع عربة التاريخ إلى الأمام.
وهنا أذكر كتاب (حالة ما بعد الحداثة) للمفكر الفرنسي جان فرنسوا ليوتارد بمثابة شهادة ولادة رسميّة لهذا الفضاء الجديد المسمى ما بعد الحداثة ، إذ يمكننا تلمس تحولات في الأشكال الأدبيّة ولا سيما الرواية ومنتجات الثقافة على تنوعها من رسم ورقص ونحت وأزياء منذ وقت مبكّر في بداية السبعينات.
ولقد تركّز خطاب مرحلة ما بعد الحداثة على تجريد أي معنى من السلطة على المنتج الثقافي فكل المعاني ممكنة ويمكنها أن تتعايش معاً دون تناقضات وجوديّة وهو ما برر لاحقاً إعادة تقييم كاملة لهياكل القوة السائدة في المجتمعات الغربيّة ، وفتحت الأفق لفهم تجربة الوجود الإنساني من خلال تقاطع هويات متعددة بين الدين والجنس والعرق والظروف الموضوعيّة معاً ، وهي الأجواء التي حكمت خبرة الجيل الحالي، ولا يزال البعض متعلقاً بها ومستشهداً ببعض الأعمال الأدبيّة التي ما زالت تستعين بأدوات تلك المرحلة دون أن يدرك أن الرواية بالذات تأتي متأخرة إلى المشهد الثقافي وأن عشرات الأعمال كانت لا تزال تصدر متأثرة بأدوات الحداثة بعد دخول الحداثة مرحلة موتها.
ويكفيك بالطبع أن تشاهد دائماً في الغرب فيلماً سينمائياً حديثاً، أو تستمع لعمل موسيقي جديد أو تحضر مؤتمراً أدبيّاً لتجد أنّ لا أثر مطلقاً لمرحلة ما بعد الحداثة كما ان لا أحد خارج الدوائر المتخصصة الضيّقة يتحدث عن فوكو أو ديدرا أو بودليارد، ولم يقرأ أي من الشباب إيكو أو كالفينو أو ديليو فما الذي حدث وكيف لقيت ما بعد الحداثة موتها السريري؟
الواقع أن الخمس وعشرون عاماً الأخيرة شهدت تحولات جمّة مفاجئة ومفجعة ليس في طبيعة النتاج الثقافي فحسب بل وعلى نحو أكثر جذريّة في أشكال السلطة وهيكليّات القوة ومعنى المعرفة وطرقها وكذلك مفهوم الغربيين لذواتهم وتصوراتهم عن الزمان والمكان والحقيقة ، فهناك في لحظة ما بين إرسال أول رسالة نصيّة عام 1992 وحرب الخليج عام 2003 أخذت التكنولوجيا الحديثة بإعادة ترتيب أوراق العالم من جديد ، وانطلقت دون رحمة تعيد تعريف كل شيء بما في ذلك المُنتِج والمنتَج والمستهلك لكل معطيات الحياة البشريّة المعاصرة حيث لم يعد المستهلك مجرد متلقٍ للمنتجات الثقافيّة ، كما تفترض العلاقات في مجتمع ما بعد الحداثة بل قلبت معطيات التكنولوجيا الأدوار ليصبح المستهلك وعلى نحو متزايد جزءاً لا يتجزأ من عمليتي الإنتاج والاستهلاك بالإضافة الى برامج التلفزيون التي تتطلب تصويت المشاهدين والأسلوب الجديد لتلقي الأخبار على الإنترنت ، الذي جعل التلفزيونات والصحف التقليديّة تبقى حصراً على كبار السن.
فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك طرق الاستماع الانتقائي للموسيقى وتبادلها إلكترونياً وكذلك المعارف الإلكترونيّة التي تدفع بأدوات المعرفة التقليديّة من كتب ومجلات ومؤتمرات ومحاضرات إلى الانقراض بالإضافة الى تطبيقات مشاهدة المواد الدراميّة والوثائقيّة من أفلام ومسلسلات على الإنترنت التي منحت سلطة إدارة العرض بالكامل للمستهلك. هذه كلها مجرد أمثلة على هذا الانقلاب الجذري على صعيد العلاقة بين طرفي عمليّة الإنتاج الثقافي التي تقابلها تغييرات مماثلة أيضاً في مضمون تلك الأعمال تأخذ بها بشكل متزايد إلى الضحالة والتسرع وقصر العمر الافتراضي حيث أن منتجات ثقافة اليوم لا تاريخ لها ولا مستقبل ، فهي عابرة ومؤقتة وتتلاشى في الفضاء الافتراضي.
ومع ذلك فإن الجيل الجديد يتطلع نحو جوهر عصره المستجّدِ هذا وقد أطلق عليه لقب الديجيمودرانزم أو الحداثة الرقميّة ، دون أي تعاطف مع منتجات ما بعد الحداثة التي يتناقص جمهورها بغياب الجيل الأكبر سناً. فالجيل الجديد يرى هذه المرحلة الحاليّة كما لو كانت عصر نهضة ذهبي يمجد العقل والإبداع والتميّز والاحترافيّة والتمرد على القيم الموروثة والارتقاء بالفردية حيث أحدث منتجات التكنولوجيا قد تستخدم من قبل شخص بسيط لإنتاج نص على مستوى ثرثرة يومية فتعطي أبعاداً غير مسبوقة لمفهوم التجربة الديمقراطيّة.
وقد تكون الخشية من تاريخ (الحداثات) وكما تشهد الصيرورة التاريخيّة فإنها تلتهم في طريقها عادة الكثير من البشر وتنتج مآسيَ وتتسبب في إحساس الأفراد بالاغتراب والوحدة والتضاؤل لذلك فإن حداثتنا الجديدة هذه تبدو وإن اختلفت أدواتها ومناهجها عن الحداثة الأولى بأنها ستتبع ذات المسار المظلم!