هذا على مستوى الدول ، أما على مستوى الأفراد والزعماء فالأمر كذلك صحيح إذ لا يُذكر من تاريخهم إلا ما هو ايجابي ، أما ما هو سيئ وسلبي فيُطمر في عالم النسيان ، وإن قدر وذُكر فيُذكر داخل الأوراق وفي الملفات الخاصة ، وذلك بهدف المحافظة على الصورة المشرقة البراقة لهذا الزعيم أو القائد ، ولا تظهر هذه الحقائق إلا بعد ذهاب صاحبها ، وهذا يتماهى مع المقولة المتداولة بين الناس إن التاريخ الحقيقي لا يظهر إلا بعد ذهاب أو زوال صاحبه فرداً كان أو دولة.
وفي لمحة سريعة ان تأملنا في بعض كتب التاريخ ، نقف أمام سؤال مهم للغاية: هل كل ما ورد في هذه الكتب صحيح ويعكس الحقيقة أم أن جزءاً مما ورد مزور، وتتبرأ منه الحقيقة؟ لو فتشنا في تاريخ الشعوب وفي ذاكرتها وفي سجّلاتها لوجدنا الكثير مما يحار المرء بشأنه ، ويجد نفسه يتأرجح بين التصديق والتكذيب لأحداث أقرب ما تكون إلى الخيال ، وذلك لضخامة الأحداث الواردة في الوثيقة أو السجّل الذي وردت فيه هذه الأحداث ، أو لقلة ما ورد وعدم وضوحه وغموضه.
فهل تدوين التاريخ وكتابته ونقله بصورة صحيحة وصادقة في الوقت الراهن مثله مثل العصور السابقة حيث لا وجود للكاميرا والتسجيل الصوتي والمرئي والتقنيات الحديثة كافة في ذلك الوقت؟ مما لا شك فيه أن الثورة التقنية أحدثت بل فرضت واقعاً جديداً في آلية كتابة التاريخ وتدوينه مما يقربه بصورة كبيرة إلى الواقعية والموضوعية وقلة التحيز في نقله وعرضه على الناس وعلى الرغم من ذلك يتم التزوير والتحريف وتسخير التكنولوجيا لفبركة الحقائق في بعض وسائل الأعلام المسيسة كل بحسب اهوائه ورغباته وما تقتضيه المصلحة دون أي رادع أدبي أو أخلاقي.
والحقيقة التي يجهلها معظمنا هو أن التحكّم بالمعلومات التاريخية يُعدّ أمراً أساسياً في السيطرة على العامة من الناس . أقول ذلك لأن التاريخ البشري الحقيقي هو مختلف تماماً عن ما نتصوّره فلكي تتمكّن من السيطرة على مجموعة كبيرة من البشر، كل ما عليك فعله هو إقناعهم بقناعاتك وما ينسجم مع مصالحك وهكذا يسهل السيطرة عليهم. هذه السياسة الناجحة كانت معروفة لدى كافة القوى الاستعمارية التي برزت عبر التاريخ وما زالت مستمرة الى يومنا هذا .
وبالعودة الى العصور الغابرة ، نجد بأن تدمير السجّلات المطبوعة والمخطوطات القديمة أعظم بكثير مما هو متوقع. فمكتبة الإسكندرية الأولى العظيمة ، كانت تحتوي على مليون مخطوط يتضمّن مواضيع عن العلوم والفلسفة وأسرار العالم القديم (متضمنة أيضاً فهرس كامل للمؤلفين في 120 نسخة مع سيرة ذاتية مختصرة لكل مؤلف) وفي إحدى أحداث التخريب المقصود ، دمر يوليوس قيصر 700,000 مخطوطة نادرة في هذه المكتبة وتم استخدام مكتبة الإسكندرية في إحدى الفترات كمصدر للوقود لـ 400 حمام عام من حمامات المدينة حيث استمرّ حرق الكتب لمدة ستة أشهر.
و لم يصل إلينا من الأدب اليوناني والروماني سوى أقل من واحد بالمائة ، ربما لهذا السبب لازلنا نجهل ما كان يجري على وجه الدقة في العالم القديم . نحن لسنا على إطلاع على تراثنا الإنساني القديم وهذه حقيقة ولهذا أقول بأنه علينا أن نعتمد على الأجزاء غير المترابطة والعبارات والمقاطع الهزيلة في سبيل بناء صورة عن الماضي . إن ماضينا البعيد هو عبارة عن فراغ مملوء عشوائيا بلوحات تذكارية وتماثيل ورسومات وعدة أدوات ومصنوعات أثرية ولو أن مكتبة الاسكندرية صمدت حتى اليوم، لكان التاريخ العلمي مختلفاً تماماً ، ولكنا تعرفنا على عظمة أسلافنا القدماء ورقيهم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أستعرض فيما يلي بعض ما حدث من حرق وابادة لوثائق أرخت جانبا من تاريخنا الانساني :
ـ أحرق ليو إزاروس Leo isaurus في القرن الثامن الميلادي 300,000 كتاب في القسطنطينية.كما أحرق العثمانيون الكثير الكثير في القسطنطينية عندما سقطت في أيديهم حيث دمروا واحرقوا عن عمد هذا الارث العظيم.
ـ وفي القرن السادس عشر، قام الأرشيدوق دييغو دي لاندا بحرق كل مكتبات المكسيك القديمة.
ـ بحث الغزاة الأسبان عن كل الآداب المتعلقة بحضارة المايا وقاموا بتدميرها دماراً كاملاً بصفتها علوم وثنية (باستثناء أربع وثائق فقط موجودة الآن في متاحف أوروبية). وقد تحدث الكثير من الشهود عن الصرخات المعذبة التي أطلقها علماء المايا خلال رؤيتهم لأعمالهم وأعمال أسلافهم تحترق أمام أعينهم وتتتطاير مع اللهب مما أدى إلى انتحار البعض منهم.
ـ في سنة 1566 م، أمر نائب ملك البيرو، وكان اسمه فرانشيسكو الطليدي بحرق كل الرسوم والنقوش الموجودة على اللّوحات وجدران المعابد القديمة، والتي تحدثت جميعها عن حضارات أمريكا الجنوبية التي لازالت غامضة حتى الآن.
ـ أقر مجلس ليما في العام 1583م بحرق الحبال المعقودة Quipas التي كتب شعب الإنكا تاريخهم وتاريخ أسلافهم عليها.
ـ في سنة 1790م قامت محاكم التفتيش بإحراق جميع أعمال العبقري البرتغالي جيسماو الذي توصل إلى صنع أول طائرة في التّاريخ الإنساني المكتوب ، بالإضافة إلى علوم الكيمياء الغريبة التي أبدع بها.
ـ في الحروب النابوليونيّة، تم تدميرونهب الكثير من المكتبات الكبيرة في أوروبا.كما أحرقت كنب ابن رشد ناهيك عن الحراب والدمار وحرق الكتب على يد المغول والتتار.
ـ في الحرب العالمية الأولى ، دمرت مكتبات في أوروبا و حرقت و نهبت بالكامل.
ـ في الحرب العالمية الثانية ، تم تدمير مكتبات كثيرة تحتوي على مخطوطات ومراجع نادرة لا يمكن الإستعاضة عنها أبداً. وقد تكررت هذه الأعمال الوحشية في الحروب التي شهدتها العراق وسوريا من حرق وسلب وسرقة لوثائق واثار في غاية الأهمية.
يجب أن نتذكر أمراً مهماً هو أنَّ كلَّ معركة وكلّ غزوة وكلّ ثورة أو انقلاب عبر التاريخ الإنساني الطويل ، لا بدّ من أن يتمّ فيها حرق وتدمير ونهب الكتب والمراجع والمخطوطات والتّماثيل والرّسومات والنّقوش وهذا لا يقل فظاعة عن جرائم القتل والمذابح. هذه المجازر الثقافية هي حقيقة صارخة جارحة أمام أعيننا!
ولا زالت المؤسسات الأكاديمية ترسّخ فكرة أنّ الحضارات الإنسانيّة يعود تاريخها إلى أقل من عشرة آلاف عام ، وليس أكثر من ذلك. أمّا الفترة التي سبقت هذا التّاريخ ، فكان الإنسان حينها عبارة عن كائن متنقّل من مكان لآخر يعتاش على الصيد وقطف الثمار، ثم استقرّ بالقرب من مصادر المياه الدّائمة كالأنهار والبحيرات ، فاكتشف الزّراعة ثم أُقيمت المستوطنات الصّغيرة ثم كبرت وأصبحت مدناً ثم حضارات وهكذا. أليس هذا ما نعتقده؟ لكنَّ الذي لا نعرفه هو وجود وثائق مقدّمة من قبل علماء آثار وأنثروبولوجيا مرموقين تحتوي على اكتشافات ودلائل وإثباتات لا تحصى تشير إلى أن في فترة من فترات التّاريخ السّحيقة كان هناك حضارات متقدّمة جداً عاشت وازدهرت على هذه الأرض ويعود تاريخها لمئات األآلاف من السنين...! إن التاريخ الإنساني الحقيقي لا يتم تداوله في وسائل الإعلام الغربية ولا حتى في المؤسسات التعليميَّة رغم الكم الهائل من الاكتشافات الأثرية المثيرة..!
وبالرجوع الى القصص التي تناولت الأعراق القديمة ، نستنتج بأن تاريخ الإنسان المبكّر هو في الواقع تاريخ عظيم ومدهش. لقد كان عصراً ذهبياً لحضارة متقدّمة وشعوب جبارة كانوا يمتلكون ذكاء وتقنيّات تفوق ما نمتلكه الآن. وانطلاقاً من الأرض البكر فقد توصلوا إلى بناء حضارة ذات مستوى رفيع بعد مرور ستة أجيال فقط على وجودهم الأوّل. وخلال تلك الفترة القصيرة أصبحوا قادرين على بناء المدن وصناعة آلات موسيقية معقّدة حتّى أنّهم استطاعوا صهر المعادن. وفي الحقيقة مع مثل هذه التّطورات العلميّة ، يبدو أنّ القدماء لم يكونوا أغبياء أو ذوي خلفية متوحّشة كما تزعم بعض المصادر والكتب التاريخية وللأسف الشديد لم يصلنا من تاريخ تلك الحقبات الا النذر اليسير. وبناء على ما سبق أعود الى نقطة البداية وأقول بأن لا حقائق ثابتة في التاريخ ، فما نعيشه اليوم يتم التلاعب به أمام أعيننا فما بالك بالذي جرى منذ مئات والاف السنين!