26-06-2022
آفــاق
|
اينوما
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة لنعرّف العبث بمعناه المطلق قائلين: العبث هو كل سلوك لا معنى له ولا فائدة منه، وإذا تخلينا عن المعنى الفلسفي و الأدبي للعبث الذي يعبر عن موقف الفرد من الوجود والعالم والذي ظهر عند بعض الفلاسفة الوجوديين كـ "ألبير كامو وسارتر" وعند بعض الأدباء الروائيين والمسرحيين كـ "بكيت"وإذا تجاوزنا العبث الفردي كسلوك ونهج تجاه الحياة والمعبر عن النزعة العدمية، أقول لو تركنا كل هذا وطرحناه جانباً، فإن العبث كسلوك سياسي ما هو الا دليل على غياب العقلانية من جهة ونوع من العدوانية الثأرية من جهة ثانية وهذا السلوك من شأنه أن يدمر كل ما حولنا. لأنه سلوك عدواني تدميري بالدرجة الأولى يلقي بظله عَلى حياة المجتمع ومستقبل الناس ومصيرهم وهنا تكمن الخطورة. بداية تشير كلمة “العبثية” في الفلسفة إلى الصراع بين ميل الإنسان للبحث عن الحقائق الكامنة ومعنى الحياة من جهة وبين عدم قدرة الإنسان على الوصول لأي منها من جهة ثانية. وفي هذا المجال فإن كلمة “العبثي” لا تعني أن الأمر “مستحيل منطقيا”، ولكن تعني بالتحديد أنه “مستحيل بالنسبة للإنسان أن يبلغ هذا المدى. وإن هذا العبث ليس بسبب الكون أو عقل الإنسان، ولكن على خلاف ذلك فإن هذه العبثية تنشأ من الطبيعة المتناقضة القائمة بينهما.
والعبثية هي مدرسة فكرية في الفلسفة ترى أن جهود الإنسان في الوصول إلى الحقيقة الكامنة ستفشل في النهاية، لأن الكم الهائل من المعلومات فضلاً عن المساحة الكبيرة من عدم القدرة على تأكيد أي منها تجعل الأمر مستحيلاً وبغاية التعقيد. وترتبط العبثية ارتباطاً وثيقاً بمذهبي الوجودية والعدمية، وقد بدأت جذورها في القرن التاسع عشر لدى الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد والذي أختار أن يواجه الحقائق المعقدة التي تواجه البشرية في هذه الحياة العبثية من خلال تطوير فلسفة وجودية. وقد ولدت العبثية كمنهج "اعتقادي" في الحركة الوجودية الأوروبية التي انطلقت خاصة بعد أن رفض الكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو بعض المفاهيم المتعلقة بالخط الفلسفي ونشر مقالة “أسطورة سيزيف” والتي تتلخص في أن مجهودات الإنسان لإدراك معنى الكون دائمًاً ما تنتهي بالفشل الحتمي ذلك لأن هذا المعنى المنشود غاية من الصعب بلوغها , ولكن على المرء أن يتقبل ذلك ويتمرد ضده في آن واحد.
العبثية تنطوي على أسلوب مأساوي ومشاعر الإحباط التي تنشأ من تناقض بين سعي الإنسان لحل لغز معنى الحياة وصعوبة الوصول اليه. وقد قدمت نتائج الحرب العالمية الثانية البيئة الاجتماعية والسياسية الحاضنة والتي ساهمت بتطوير نظرية العبثية وسمحت لها بالانتشار وخاصة في فرنسا المدمرة بعد الحرب.
ولعل القبول بالعبثية هو الحل الذي يفهم فيه الانسان عبث هذه الحياة ويتابع حياته على الرغم من ذلك. وقد أيد كامو هذا الحل مؤمناً بأن تقبل هذه العبثية يمكن أن يحقق للإنسان الحرية المطلقة التي ينشدها من خلال التمرد على" فكرة العبثية" في الوقت نفسه الذي يتقبل فيه فكرة أنها شيء لا يمكن إيقافه. إلا أن كيركيغارد وعلى المقلب الأخر، اعتبر هذا الحل "جنوناً شيطانياً."
ووفقاً للعبثية فإن البشر يحاولون تاريخياً العثور على معنى لحياتهم، مما يقودهم تقليدياً إلى إحدى نتيجتين: إما أن الحياة لا معنى لها، أو أن الحياة تحوي في داخلها على "منظومة منصوصة" من قبل سلطة أعلى لا تقبل الجدل أو النقاش. والعبثية السياسية, نظرية سياسية متعارف عليها تستخدمها الأنظمة الدولية والحكام مع خصومهم, وذلك بصناعة العديد من الأحداث المتناقضة والمتداخلة وغير المفهومة, مما يسبب تشتيت العقول والأفكار وإدخالها في دوامة من الارباك والتيه, فلا تستطيع فهم الأحداث أو تفسيرها, ولا تقدر كذلك على وضع خطة إستراتيجية صحيحة, وذلك لصعوبة قراءة الواقع جيداً أو المشهد الذي يحيط بك. ولا تستطيع استقراء المستقبل بصورة سليمة, وكل ذلك بسبب العبثية المتعمدة للأحداث, وباختصار شديد: العبثية السياسية تعني خلق فوضى سياسية توحي بأنها غير منتظمة لكنها في حقيقة الأمر هي عبثية منتظمة تسير وفق خطة وإعداد مدروس يؤدي إلى النتائج التي ينشدها من أوجد هذه العبثية. ولعل سمة هذا العصر الذي نعيشه اليوم هي العبثية بامتياز على كافة الأصعدة وفي جميع الاتجاهات :الاجتماعية والفكرية والسياسية ويبقى السوأل الاصعب ...هل هذا ثمن الحداثة الذي علينا جميعاً أن ندفعه؟ أم أنه غباء الانسان وجشعه اللذين لا حدود لهما؟
الدكتورة ميرنا داوود
الدكتورة ميرنا داوود
أبرز الأخبار