مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

انفصام الشخصية العربية في عصر العولمة

24-02-2019

آفــاق

الدكتورة ميرنا داوود

أستاذة جامعية وكاتبة

ليست العولمة موجة جديدة ولا هي وليدة الوقت الحاضر، إنما ظاهرة نشأت مع ظهور الإمبراطوريات في العصور الماضية ، ففيما مضى حاولت الإمبراطوريات مثل الإمبراطورية الرومانية على سبيل المثال أن تصبغ الشعوب التي تبسط نفوذها عليها بثقافتها وتسعى لترسيخ هذه الثقافة في مختلف جوانب حياة هذه الشعوب ، كما عملت على توجيه فهم هذه الشعوب وتقاليدها وفق أنماط الحياة التي تريدها ، فكانت هذه الخطوة الأولى نحو العولمة كما يصفها بعض المفكرين.

وظهور العولمة بحسب رأي عدد من الباحثين يرجع إلى القرن الخامس عشر (عصر النهضة الأوروبية الحديثة) حيث التقدم العلمي في مجال الاتصال والتجارة ، ويشدد أصحاب هذا الفكر على رأيهم بأن العناصر الرئيسية في فكرة العولمة تكمن في ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم ، المتمثلة في تبادل السلع والخدمات أو في انتقال رؤوس الأموال أو في انتشار المعلومات والأفكار أو في تأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم

وبطبيعةالحال ليس من الحكمة أن نتعامل مع العولمة بمنطق الرفض المطلق أو القبول المطلق فالعولمة عملية تاريخية ، وبذلك يعدّ منطقًا منقوصا ما يدعو إليه البعض من ضرورة محاربة العولمة ، فهل يمكن مثلاً محاربة شبكة المعلومات الدولية الإنترنت من خلال إصدار قرار بالامتناع عن التعامل معها؟ وهل يمكن الامتناع عن التعامل مع منظمة التجارة العالمية رغم سلبياتها المتعددة؟ وغير ذلك من المؤسسات العالمية التى لا يمكن الانغلاق دونها؟

في موضوع العولمة نجد شعوبنا منقسمة إلى رأيين: رأي يقول أن العولمة وهم وهي مؤامرة وهناك رأي آخر يقول بضرورة الالتحاق بالعولمة، وفهم مظاهرها والتعامل مع إيجابياتها وسلبياتها على السواء ، وإلا فسنجد أنفسنا خارج الملعب في المستقبل.   وبقراءة سريعة لواقعنا المشرقي المعاصر يتضح لنا حجم تذبذب خطابنا الرّسمي بين التمسّك بالأصالة ، من قبيل أن "من لا ماض له لا مستقبل له"، والتلويح بأننا مجتمعات منفتحة على العصر بل في مركز المعاصرة ذاتها.

ولعل أكبر ما يهدد ثقافات الشعوب فى عصر العولمة هو هيمنة ثقافة الدولة المتفوقة على سواها اقتصاديًا وتقنيًا ، بما توفر لتلك الثقافة من ضخامة إنتاج موسيقى وسينمائى وتليفزيونى… إلخ، وما حققته لها وسائل الاتصال العصرية من رواج فى كل أرجاء المعمورة، وما تحمله من قيم مادية ونزعة فردية وتوجه استهلاكي مفرط ، مما يجعلنا فى حاجة كذلك إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا القومية وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشى تحت تأثير موجات الغزو بوسائل العلم والتكنولوجيا الحديثة الذى يمارس علينا وعلى العالم أجمع.

بيد أن مفارقات مثيرة تتّضح لنا بين ذلك الايمان الجامح بضرورة اللحاق بركب الحداثة وحقيقة التخلف الذي نكابره حاليا في جلساتنا الخاصة ونقاشاتنا العامة المتوترة في أغلبها بفضل ميولنا الإنفعالي ومزاجنا الوطني وكبريائنا القومي ففي سبعينيات القرن الماضي ، دخلت نُخبنا السياسية والثقافية في سجالات نقدية ملتهبة حول مخاطر الأمبريالية والرأسمالية والشيوعية وغيرها من الفلسفات السياسية في معارك لا نهاية لها. وفي الثمانيات، انقسمنا في مواقفنا من العولمة وندّد أغلبنا بالاستعمار الثقافي الجديد.

ومنذ تنامي تأثير حركات الإسلام السياسي"الراديكالية" في التسعينات ، لم تهدأ عاصفة الجدل بيننا بشأن الحداثة وضرورة العلمانية وعلاقة الدين بالدولة ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين ، وقعنا في فخ التباري بين دعوات مدنية وعلمانية ، وأحيانا إلحادية في الدفاع عن قيم الحرية والمواطنة والحداثة في شقيها السياسي والثقافي.

تكثر هذه الازدواجيات وتمتد في كل اتجاه عند تأمل حقيقة علاقتنا الثقافية والمجتمعية مع روح العصر والنزاعات المذهبية والدينية التي لا تتوقف ، وكما قال ابن خلدون قبل أكثر من ستة قرون ، الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جدّا في عصور التراجع الفكري للمجتمعات وهذا ما يتأكد لنا للاسف الشديد.

ومع  ما سُمّي "الشتاء" العربي ، لم نتحلل من ثقافة منع الاختلاف وإقصاء الآخر حسب التصنيفات العرقية والثقافية والدينية. نحن شعوب ذات معدّلات هزيلة في إدارة الاختلاف وتبني التعددية ، نظلّ مخلصين لنظام العشائر السياسية والدينية والثقافية ، نقاوم جاهدين فكرة المواطنة وتكافؤ الفرص وفق غياب لثقافة المواطنة الحقة ، جاهزون دوما لأن نُصوّب فكرنا حتى آخر طلقة على الاختلاف والطرح النقدي والتعددية.

هناك معضلة أخرى تنمّ عن تباطئنا في الخروج من دوّامة التخلف هي أننا شعوب جُبِلَتْ على القطيعة مع الكتاب ، ومعدل المطالعة السنوية في بلداننا لا يفوق 0.80 في المائة ، بمعنى أننا أناس لا تستوعب أذهاننا أكثر من ثلثيْ كتاب واحد نقرأه طوال العام ، ولا عجب في أن أكبر المبيعات من الكتب في أسواقنا هي كتب الطبخ وتفسير الأحلام ، لأننا شعوب اختزلت وجودها الذهني والحضاري في الأكل والنوم وما بينهما ، وكأن هذا هو غاية وجودنا على هذه الأرض ، فمن أين يتسلل التفكير العقلاني وروح النقد إلى أدمغتنا ، وكيف ندّعي أننا جزء من روح العصر المعرفية والحضارية؟

لقد أدت العولمة إلى صبغ الثقافة العربية بالثقافة الاستهلاكية ، فأصبح مجتمعنا تستهويه الثقافة الاستهلاكية ، لذلك فهو حريص على أن تتحول حياته إلى رحلة لا يأخذ فيها كتاباً ولا ورقة بقدر ما يحرص على تعبئة عقلة ووجدانه بنزعة استهلاكية مدمّرة كي يصبح مُجمل حديثه عن آخر ما نزل في الأسواق من الهواتف الذكية ، والوسيلة التي تمكّنه من اقتناء سيارة حديثة وجهاز كمبيوتر متطوّر ، أو أنه يقضي معظم حياته وهو يلعن الفقر الذي لم يتح له الفرصة في أن يكون كائناً استهلاكياً يقتني أحدث الماركات المعتمدة في عالم الساعات والعطور والملابس الجاهزة.

 

 

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما