مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

دراسة في نشأة الادب المقارن واتجاهاته

07-07-2018

آفــاق

الدكتورة ميرنا داوود

أستاذة جامعية وكاتبة

في عام 146 قبل الميلاد وهي السنة التي غزى الرومان فيها اليونانيين كان هناك احتلال من نوع آخر يتمثل في التبادل الأدبي والثقافي فقد صار كل من الأدب و الفلسفة اليونانية المرجع الأساس للفلاسفة و الكتاب الرومان حبث نجد ان المسرحي التراجيدي الروماني ( سينيكا) قد تأثر بالمسرحيين التراجيديين اليونان أمثال سوفوكليس و يوريبيديس و اسخيليوس .

ويمكن أن نشير ان ظاهرة التاثير و التأثر بين الأدبين قد أثمرت نظرية نقدية مهمة كان لها بالغ الأثر لدى النقاد حتى عصر الكلاسيكية . ومن هنا كثرت النتاجات الادبية الرومانية التي شابه اصحابها الاعمال الادبية للكتاب الاغريق كما اصبح النقاد والمؤرخون الرومانيون يقومون ببعض الدراسات المقارنة البسيطة.
تعود نشأة الأدب المقارن بمفهومه الحديث إلى القرن التاسع عشر الميلادي ويرى العديد من المتخصصين في هذا المجال انه بالرغم من محاولات المقارنة العديدة بين الآداب في السابق إلا أن ملامح هذا العلم لم تظهر إلا في عام 1827 في فرنسا وذلك حين بدأ Abel Villemain  الذي كان أول من استخدم مصطلح " الأدب المقارن " بإلقاء محاضرات في جامعة السوربون حول علاقة الأدب الفرنسي بالآداب الأوروبية متناولا فيها التأثيرات المتبادلة بين الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي بالإضافة الى تأثير الأدب الفرنسي في إيطاليا في القرن الثامن عشر . أسس موريس فرانسوا جويار (Maurice Francois Guyard) في بدايات عمله كمتخصص في الأدب المقارن عام 1951 مفهوم الأدب المقارن بصورته الحالية وتعتبر صحيفة  (Le Globe)  وهي صحيفة أدبية رائدة في هذا المجال أسست عام  1824 . وتعبر عن النقد وتتناول هذا الموضوع كما عبر  (Goethe) بقوله : اني أحب تعلم الآداب الأجنبية وانصح كل شخص بأن يسعى إلي تعلُمها والجدير بالذكر ان نشأة الأدب المقارن تزامنت مع نشأة الأدب القومي الليبرالي المُنفتح الذي تطور من خلاله النقد الفرنسي . والأدب المقارن فرع من فروع العلم يُدرسُ من خلاله الأدب القومي من حيث تأثره أو تأثيره في آداب قومية أخرى.


إن ظهور خيوط لرؤية عالمية في مجال الثقافة و الأدب عند بعض المفكرين الأوروبيين أمثال فولتير و روسو و ديدرو و غوتة بالإضافة الى ظهور اعتقاد بأن الآداب الأوروبية هي حصيلة تفاعلات مشتركة عميقة وإن الإبداع الأدبي هو تجربة مشتركة غير مقصورة على أدب دون آخر كل ذلك كان سببا في تعميق هذه الدراسة.  ومن ثم تطور الاتجاه الرومانسي في الأدب و طرح كاتجاه إنساني شامل يعنى بالتجربة الإنسانية أينما كانت ، و يتجاوز حدود الأمم و اللغات.


ان اتساع الأفق الأدبي عند الكثير من الباحثين نتيجة لازدياد الصلات الثقافية بين الشعوب الأوروبية واطلاعهم و معرفتهم بأدب بعضهم البعض اما عن طريق الترجمات أو عن طريق المعرفة المباشرة للغات الأجنبية ساهم في انتشار هذا النوع من الادب وكذلك نشأة فروع معرفية جديدة تعتمد على المقارنة مثل علم الميثولوجية المقارن وعلم التشريع المقارن وعلم اللغة المقارن .
تنبه الفرنسيون قبل غيرهم من الأوروبيين إلى قيمة التراث المشترك بينهم وبين المناطق الأوروبية ألأخرى مما كان سببا في نشأة أساس فكرة الأدب المقارن واشيرهنا الى الرغبة الشديدة للفرنسيين في استرجاع مكانة فرنسا الثقافية الماضية من خلال بسط السيطرة الثقافية على المستعمرات الفرنسية في البلدان الإفريقية وتعتبر المدرسة الفرنسية التقليدية هي أول اتجاه ظهر في الأدب المقارن حيث كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر واستمرت سيطرتها كاتجاه وحيد في الأدب المقارن حتى أواسط القرن العشرين حيث ظهرت اتجاهات أخرى نازعتها في هذا التفرد .
وقد قامت هذه المدرسة التقليدية على المنهج التاريخي ولذلك تمت تسميتها بالمدرسة التاريخية حيث كان فرانسوا غويار أحد أهم أعلام الأدب المقارن فيها وقد وضعت هذه المدرسة شروطا صارمة لدراسة الأدب المقارن خيث انه اذا اراد احداً ان يدخل في هذا المجال لا بد من ان تتوافر لدية الشروط التالية :

أولا : أن تكون الدراسة بين أدبين أو أكثر حيث ان معيار الأدبين في هذه المدرسة هو اللغة فلا تجوز المقارنة بين عملين أدبيين كتبا بلغة واحدة مهما كان الاختلاف العرقي أو الجغرافي بينهما لأن هذه المدرسة تعتبر أنهما من قومية واحدة و المقارنة بينهما لا تتعدى كونها موازنة .

ثانيا : أن يتوفر الـرابط التاريخي بين العملين الأدبيين ، بمعنى أن عملية المقارنة في إطار الأدب المقارن لا تكون إلا بين عملين أدبيين أو أكثر ثبت تاريخيا أن أحدهما قد تأثر بالآخر

ثالثا : أن يكون المؤثر أدبا موجبا و المتأثر أدبا سالبا لان المدرسة الفرنسية التقليدية قسمت آداب و ثقافات العالم إلى قسمين ؛ قسم موجب و قسم سالب وربطت عملية التأثير و التأثر بحالة الاستعمار وعلاقة الدول المستعمرة بالدول المستعمَرة فنجد أن أداب و ثقافة الدول المستعمرة هي دائما الأقوى وهي دائما المؤثرة وعلى ذلك يكون أدبها موجبا وأن أدب و ثقافة الدول التي تم إستعمارها هي الضعيفة وبالتالي فهي المتأثرة دائما وبناء على ذلك فقد اعتبرت ثقافات و آداب أوروبا الغربية هي الموجبة وبالتالي هي المؤثرة دائما لأنها هي القوية وهي التي تمثل الحضارة أما باقي ثقافات وآداب العالم الآخرى وخصوصا العربية والإفريقية فهي تتأثر فقط باعتبارها ضعيفة ولا تمتلك ما تقدمه للآداب القومية الأخرى .


إن من يمعن النظر في الأسس والشروط التي وضعتها المدرسة الفرنسية التقليدية للدراسة المقارنة يلمس تقدم البعد الإيديولوجي فيها على البعد الأكاديمي العلمي بالإضافة الى خدمة النزعة المركزية الأوروبية  (Eurozentrismus) وهي تلك النزعة الأيديولوجية التوسعيّة التي تخدم مساعي الهيمنة الثقافية الأوروبية والتي شكلت مكونا هاما من مكونات العقلية الاستعمارية الأوروبية في تلك الحقبة التي انبثقت عنها المدرسة الفرنسية التقليدية حيث ان هذا الأساس والطرح غير العلمي (الأيديولوجي ) هو الذي عرض هذه المدرسة للانتقادات الكثيرة من الفرنسيين أنفسهم قبل غيرهم


لم تعطي الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأدب المقارن اي انتباه إلا في سنة 1958 حين ألقى الناقد الأمريكي ( رينيه ويلك ) محاضرة تاريخية بعنوان "أزمة الأدب المقارن" وذلك في المؤتمر الثاني للرابطة الدولية للأدب المقارن الذي انعقد في "جامعة تشابل هيــل" الأمريكية حيث وجّـه من خلالها نقدا لاذعاً للمدرسة الفرنسية التقليدية محاولا من خلال ذلك نسف كل أسسها و مرتكزاتها وفي الحقيقة فقد كان لمقال ذلك الناقد الأمريكي وقعا كبيرا في الساحة الأدبية وكان البداية في رسم التوجه الذي سارت عليه المدرسة الأمريكية بعد ذلك وسار عليه روادها و بالتحديد رائدها (هنري ريماك) الذي استطاع أن يؤسس المبادئ والأسس التي قامت عليها المدرسة الأمريكية .


و يمكن القول أن أهم ما كان يميز اتجاه المدرسة الأمريكية في الأدب المقارن هو رفضها لكل ما جاءت به المدرسة الفرنسية التقليدية نظريا كان أو تطبيقيا حيث جعلت للأدب المقارن مفهوما جديدا و دعت إلى أسس جديدة تحكم دراسة الأدب المقارن وتتمثل في الأمور التالية:
1. ضرورة دراسة الظاهرة الأدبية في شموليتها دون مراعاة للحواجز السياسة واللسانية حيث يتعلق الأمر بدراسة التاريخ والأعمال الأدبية من وجهة نظر دولية.
2. الدعوة إلى تطبيق منهج نقدي في الأدب المقارن والتخلي عن المنهج القائم على حصر ما تنطوي عليه الأعمال الأدبية من مؤثرات أجنبية وما مارسته على الأعمال الأدبية الأجنبية من تأثير.‏
3. الدعوة إلى جعل الدراسات المقارنة تدرس العلاقات القائمة بين الآداب من ناحية و بين مجالات المعرفة الأخرى ؛ كالفنون ، و الفلسفة ، و التاريخ ،و العلوم الاجتماعية .

و لكن ، و بالرغم من منطقية هذا الرفض و الانتقادات التي وجهتها المدرسة الأمريكية لنظيرتها الفرنسية ، و جعلتها حجة و سببا لرفض المفاهيم و المنهجية التي تبنتها هذه الأخيرة ، إلا أنه في واقع الأمر فهنالك أسباب أخرى خفية و جوهرية جدا تنطوي على صراع قومي أيديولوجي ، لم تعلنها صراحة المدرسة الأمريكية وهي إن الدراسة التاريخية التي تتبناها المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن لا تتلاءم مطلقا مع طبيعة الولايات المتحدة الأمريكية ، نظرا لحداثة تاريخ هذه الأخيرة ، و لكونها لا تملك تاريخا أدبيا يضاهي التاريخ الأدبي الأوروبي عامة و الفرنسي خاصة .
إن شرط اللغة الذي وضعته المدرسة الفرنسية ، و جعلته إجباريا في أي دراسة مقارنة وربطته بالقومية ، هو شرط لا يتماشى كذلك و طبيعة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر دولة لا تملك لغة رسمية، من جهة ، و مجتمعها مشكل من العديد من القوميات و الأعراق ، من جهة ثانية وهو ما يعني أن كل الأعمال الأدبية التي ستنتج في أمريكا بأي لغة من لغات قومياتها ستنسب إلى أدب غير الأدب الأمريكي ، فحتى لو كتب بالإنجليزية فهو يصنف حكما من بوابة الأدب الانجليزي ، بحيث لا يمكن مقارنته بأي عمل أدبي انجليزي ، و إن حدث ذلك فإن تلك الدراسة لا تعد دراسة مقارنة و لا تدخل في مجال الأدب المقارن ، و إنما هي مجرد نقد ادبي ، و هذايعمم على كل أدب مكتوب بأي لغة قومية من اللغات الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية كالإسبانية و الصينية ، و الفرنسية ...الخ .
إن التقسيم الثنائي للأدب الذي فرضته المدرسة الفرنسية ، وربطت من خلاله ايجابية و سلبية العمل الأدبي بعامل الاستعمار هو مبدأ لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أن الأدب الموجب و الراقي هو أدب الدول المستعمرة ، و الأدب السالب هو أدب الدول المستعمرة ، و أدب الولايات المتحدة الأمريكية بموجب هذا المبدأ لن يكون في الريادة .
و بناء على هذه الأسباب يبدو لي أن منظري الولايات المتحدة الأمريكية من نقاد و مقارنيين قد أدركوا أن الأسس التي وضعتها المدرسة الفرنسية التقليدية و المنهجية التي اعتمدتها في الدراسة المقارنة ، تعتبر عامل إقصاء للولايات المتحدة الأمريكية في ميدان علم الأدب المقارن ، فالتسليم بما جاءت به هذه المدرسة في هذا العلم سيجعل من الولايات المتحدة الأمريكية دولة تابعة ، و لذلك حاولوا ان ينسفوا كل المرتكزات و المبادئ التي قامت عليها.تحدثت عن المدرستين الرائدتين في مجال الادب المقارن وهما الفرنسية ةالاميركية اما فيما يخص العالم العربي فان مصطلح « الأدب المقارن » ظهر لأول مرة عام 1936م، عند خليل هنداوي في مقالات متفرقة كان ينشرها في مجلة « الرسالة » لقد نشر خليل هنداوي دراسة حول تلخيص أبي الوليد بن رشد لكتاب أرسطو « فن الشعر »، ذكر فيها مصطلح « الأدب المقارن » بالعربية والفرنسية (Littérature comparée).وقد دعا خليل هنداوي الأدباء العرب إلى الانفتاح على الآداب الأجنبية والاقتداء بابن رشد الذي لخص كتاب « فن الشعر » لأرسطو، وذلك من أجل نهضة الأدب العربي، وهو يرى أن ابن رشد لم يقم بهذا التلخيص إلا من أجل الإفادة منه وتعريف القارئ العربي ببلاغة اليونان.
أما الأديب إِلياس أبو شبكة الذي ترجم عدة أعمال فرنسية إلى العربية فقد ألف في سنة 1943م كتابا بعنوان « روابط الفكر والروح بين العرب والغرب », تناول فيه الصلات التاريخية بين أدب العرب والادب الغربي. ويذكر أن رواد المدرسة الفرنسية الأوائل، بعد دراستهم لتاريخ الأدب في أواخر القرن التاسع عشراتخذوا من عوامل التأثير أو الصلات التاريخية بين آداب الأمم أساسا للاتجاه التاريخي.
لقد ظهرت الدراسات العربية المقارنة متزامنة مع المدرسة الفرنسية وقبل ظهور المدارس الأخرى: الأمريكية والسلافية والألمانية وإذا كان الدارسون العرب الأوائل قد اختلفوا مع الاتجاه التاريخي في بعض الجوانب واتفقوا معه في جوانب أخرى، هذا إنما يدل على أن هؤلاء الباحثين، رغم إعجابهم بالاتجاه الفرنسي وانبهارهم بالآداب الغربية الحديثة، إلا أنهم كيّفوا دراساتهم حسب حاجاتهم النهضوية وتقاليدهم الأدبية والعقائدية التي تفرضها طبيعة المجتمع الشرقي وخصوصيته.

 

 

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما