مباشر

عاجل

راديو اينوما

قراءة في المدينة الفاضلة

29-06-2018

آفــاق

الدكتورة ميرنا داوود

أستاذة جامعية وكاتبة

المدينة الفاضلة أو الطُوبَاوِيّة أو المِثَالِيّة أو يوتوبيا ( باليونانية οὐ-τοπος ) هي ضرب من الفلسفة في مجتمع مثالي لا وجود له, مجتمع يزخر بأسباب الراحة والسعادة لكل بني البشر.

 ومن هذا المعنى في اليونانية يرجع استخدام المصطلح الذي اشتقه سير توماس مور في عمله اللاتيني utopia . ولعل هذا النوع من التأليف يضرب بجذوره في جمهورية أفلاطون التي تقدم رؤيته في السياسية والحكم حيث يغلب على أعمال الأدب الطوباوي طابع سياسي حالم بمجتمع فاضل يسعد أهله بلا استثناء. ومن هنا كانت المدينة الفاضلة للفارابي. توماس مور اقتبس من افلاون وطور فكرة “المدينة الفاضلة” وكان لكتابه هذا ردة فعل على إنجلترا في القرن السادس عشر، فانتشار النزعة الفردية بين الناس وكثرة النبلاء الذين يعتاشون على جهد الكادحين ولديهم القدرة على تعطيل القوانين جعلته مناديًا بالجماعية وبالعدالة الاجتماعية، ومن الأشياء ذات الدلالة أن توماس مور لم يفكر بطريقة إصلاح الواقع؛ بل سار وراء خياله ليتخيل أرضًا أخرى، حيث تنتفي الملكية الخاصة والربح الشخصي وبحسب مور حيثما وجدت الملكية الخاصة وجد الظلم، وكان المال هو المعيار الذي يُقاس به كل شيء، ويتخيل مور أن العلاقة بين الحاكم والرعية هي علاقة الأب بأبنائه، وأن هذا الحاكم هو أفضل الناس ، وفي حال النزاعات يجتمع ثلاثة قضاة ويبتكرون عقوبة مناسبة تكون غايتها الإصلاح لا الردع، ويكون توجه الناس في هذه الأرض نحو نشر الفضيلة، لكن مور غالط نفسه وناقضها حيث احتفظ أيضًا ببعض العبيد وحرمهم من حق التمثيل في حكم اليوتوبيا، وسلب حق المواطنة والتمثيل في الحكومة لمن يخالف التشريع .في الحقيقة يخلط البعض بين مفهومي المدينة الفاضلة والمدينة الضعيفة أوالعاجزة فيعتقدون بأن فكرة التسليح والقتال لم ترد بذهن أفلاطون عند حديثه عنها، بينما الصحيح هو عكس ذلك تماماً، فالمدينة الفاضلة في نظر أفلاطون هي تلك التي لا تبادر بالعدوان، إنما في الوقت نفسه لابد لها من أن تمتلك سبل الدفاع عن نفسها، وهي لتكون فاضلة لابد أن تمنح أفرادها إحساساً بالأمان، ولهذا وضع أفلاطون تكوين جيش قوي كأحد العوامل الأساسية لقيام المدينة الفاضلة ،كما أكد على ضرورة أن يكون التجنيد إلزامياً، فلا تطأ أرضها أقدام مرتزقة ولا تتم حمايتها لقاء المال والأجر، إنما يقوم أهل المدينة الفاضلة أنفسهم بالدفاع عن أرضها وحماية شعبها، فهؤلاء فقط هم المستعدون للتضحية في سبيلها ولن يخذلونها أبداً.

أقر أفلاطون بأن المساواة هي القاعدة التي تتأسس عليها المدينة الفاضلة ،لكنه في الوقت ذاته أكد على أن المساواة ليست مطلقة، بمعنى أن المساواة في المدينة الفاضلة تعني حصول الجميع على فرصة، ومن يغتنمها فله الحق في الترقي، وجعل من ذلك المبدأ قاعدة الترقي في مختلف المجالات فمثلا يكون التجنيد إلزامياً لكافة الشباب لفترة زمنية معينة، ومن يظهر تفوقه منهم يتم إلحاقه بمدرسة متخصصة، يدرس بها فنون القتال وطرق التخطيط الحربي وما إلى ذلك من العلوم العسكرية، والأمر ذاته ينطبق على العلماء وغيرهم.

في مجتمع الغابات والمجتمعات الغوغائية يكون البقاء للأقوى، أما في المدينة الفاضلة وبحسب افلاطون فالأمر يختلف، فقد جعل البقاء فيها للأفضل والأجدر، والأمرلا تحكمه وساطة ولا نسب، إنما يتم الترقي داخل المدينة الفاضلة وفقاً للمزايا والقدرات الفردية، وفي ذلك ساوى أفلاطون بين ذكور المدينة الفاضلة وإناثها، فالأفضل فيهم يتم ترقيته وتوليته القيادة بغض النظر عن نوعه، ليصبح بذلك المساواة بين الجنسين أحد أسباب التي تجعل المدينة الفاضلة رمزاً للكمال.

 

لقد أراد أفلاطون أن يضمن لمدينته لخلود، وهي رغبة تتنافى مع الطبيعة الفانية لمؤسسيها، و أن ذلك لن يتأتى إلا بوسيلة واحدة، ألا وهي أن تهتم الأجيال السالفة بتربية الأجيال اللاحقة، التي هي الوريث الشرعي والوحيدة لحضارة المدينة الفاضلة ،وحاملي الراية الذين سيكملون المسيرة التي ابتدأها أجدادهم، ولضمان مستقبل أكثر ازدهاراً كان لابد من إعداد قادة يحملون اللواء جيلاً بعد جيل، لذا أوصى أفلاطون بضرورة تدشين عِدة مدارس، يلتحق بها المتميزين بالمجالات المختلفة ليتم إعدادهم ليكونوا قادة ، فقال بأن الشباب يبدأ تجنيده بقوات الحرس في سن الثمانية عشر عاماً، وتستمر فترة تجنيدهم حتى بلوغهم سن الثلاثين، ثم يتم انتقاء المتميزين منهم وإلحاقهم بمدرسة خاصة بإعداد القادة العسكريين، أما الفلاسفة المتميزين فتستمر دراستهم وتلقيهم العلم حتى بلوغهم الخمسين، ثم يتم ترقية المتميز منهم إلى رتبة فيلسوف معلم، وبهذا يكون أفلاطون قد اهتم بالمستقبل قدر اهتمامه بحاضر المدينة، ليضيف بذلك سبباً يجعل من المدينة الفاضلة رمزاً للكمال المجتمعي. اعترف أنني عشت زمنا طويلا مع مشاعر رومانسية تجاه مدينة أفلاطون الفاضلة تلك المدينة التي يحكمها الفلاسفة، ويدافع عنها المحاربون، ويعمل فيها بحماس باقي أفراد المجتمع. ومن منا لا يريد أن يعيش في مدينة يحكمها من يتميزون بالحكمة وصحوة الضمير إلا أن هذه الصورة المثالية للمدينة الفاضلة لها ما لها وعليها ما عليها من الممكن أن يقع الانسان، والمجتمعات أيضا، فريسة لبعض الأفكار الضارة لمدة قد تقصر أو تطول ولا شك أن هذا ما حدث على مر العصور لبعض الدول التي عانت من طغيان شيوعي، أو ديني، أو عرقي. وإذا كانت الديمقراطية عليها مآخذ كثيرة، وكما يقال تبقى الديمقراطية أسوأ نظام للحكم، لكنه أفضل ما توصلت إليه الإنسانية حتى الآن.

services
متجرك الإلكتروني في أقل من عشرة أيام!

انطلق من حيث أنت واجعل العالم حدود تجارتك الإلكترونية…

اتصل بنا الآن لنبني متجرك الإلكتروني بأفضل الشروط المثالية التي طورتها شركة أوسيتكوم؛ أمنًا، سعرًا، وسرعة.
اتصل بنا

This website is powered by NewsYa, a News and Media
Publishing Solution By OSITCOM

Copyrights © 2023 All Rights Reserved.