25-04-2021
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
هي "لو سالومي" المرأة التي سحرت عباقرة و أساطير في القرن العشرين .. فريدريك نيتشه، سيغموند فرويد، راينر ماريا ريلكه. ارتبطت بهم ثم تركتهم وتزوجت من الموسيقار فاغنر.
سألت لو سالومي يومًا نيتشه إلى أي مدى يحبها؟ فأجابها: "إلى حد الألم" فطلبت منه أن يفسر لها كيف؟
فأحضر أعواد ثقاب ووضعها في يده، وأشعلها وهو ينظر في عينيها من دون أن يرف له جفن حتى بدأت يداه بالاحتراق.
وبعدها التقت بريلكه ولم يكن معروفًا بعد، أغرم بها، وراح يكتب لها رسائل شعرية، أمضى سنوات معها وكان مجنونًا بها، لم تحتمل حجم جنونه بها فتركته.
اما قصتها مع فرويد فهي قصة مختلفة يفرد لها بحث كامل...!
وقد يحدث فى التاريخ الإنساني أن يُجمع خيرة رجال عصر ما، على امرأة واحدة فى زمنهم، حدث ذلك مرة فى الشرق مع "مى زيادة" التي أغرم بها جبران خليل جبران وعدة شخصيات من عصرها وكذلك في الغرب، مع "لو سالومي" التي كان لوجودها في حياة رواد الفلسفة وعلم النفس مؤشر خطير ، إن لم يكن مدمر، فهي كما عرف عنها لم يكن ينقصها شيئًا على الإطلاق جميلة الملامح متناسقة التقاطيع، عيناها خضراواتان يشع منهما قوة وحضور طاغى إضافة إلي كونها مثقفة ومهتمه بالفلسفة والأدب والشعر.
ولدت سالومي في سان بطرسبرغ عام 1861. كانت كاتبة، مفكرة، ومحللة نفسية. اول من اكتشفها كان هنريك جيلوت، باعتباره أول المشرفين عليها، علمها اللاهوت، والفلسفة، والأدبين الفرنسي والألماني. بعد ذلك بفترة، انتقلت سالومي إلى روما، حيث كثفت حضورها للأحداث الثقافية. وهناك تعرفت على بول ريه، الذي خاضت معه نقاشات فلسفية طويلة كانت نهايتها، على الأقل من ناحية ريه، إعجاباً بثقافتها ما لبث ان تحول الى حب جارف وكان هو من عرفها على صديقه العظيم فريدريك نيتشه.
بدأت علاقة الفتاة الروسية لو سالومي، بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه على وجه التقريب عام 1882 فقد التقت به حين كان عمرها 21 عاما، وهو فى نهاية عقده الرابع 38 عاما، فاعتبرها إحدى تلاميذته النجيبات، إلا أنه ما لبث أن وقع فى حبها ،وهو كان لا يُؤْمِن بالحب او بالنساء، فأحبها ورفضت حبه وعرض عليها الزواج الذى قدمة إليها أكثر من مرة وكان يجابه بالرفض فدخل فى حالة اكتئاب حادة وصلت به إلى العزلة التامة وجعلته يكره النساء من جديد واتخذت كتاباته منحى السوداوية.
لم يقتصر الأثر النفسي لانصراف القراء عن مؤلفات نيتشه بعد تأليف كتابه الأشهر هكذا "تكلم زرادشت" ورفض سالومي له ولحبه على العزلة والاكتئاب فحسب بل وصل الأمر إلى الجنون، ففى عام 1889، تعرض نيتشه لانهيار عصبي، حيث لحق به شرطيان بعد اضطراب أحدثه في شوارع تورينو لقد كان لحبها تأثير مدمر عليه.
ويروى عنه إنه سمع صهيل حصان يُجلد بالسوط في آخر ساحة قصر كارينيانو، فركض إلى الحصان ثم رمى ذراعيه حول عنقه واحتضنه ليحميه، ثم انهار على الأرض، ووفقا للرؤية الطبية السائدة في ذلك الوقت كان نيتشه يعاني من انهيار عصبي متقدم وفى عام 1899 تعرض نيتشه مرتين على الأقل للسكتة الدماغية، سببت له شللا جزئيا جعلته غير قادر على الكلام أو المشي، كما تعرض لخزل شقي (شلل نصفي سريري) في الجانب الأيسر من جسده. بعد إصابته بالتهاب رئوي منتصف شهر أغسطس عام 1900، وتعرض ليلة 25 أغسطس لسكتة دماغية أخيرة، وتوفي ظهر اليوم التالي وكان يتوسطها للعودة اليه وهي ترفض بشدة.
وإذا كان نيتشه واهمًا فإن تفاصيل علاقة سالومى بريلكه الشاعر النمساوي، تكشف أن تأثيرها على الرجال مدمر بل الأخطر لانها تتصيد عباقرة الرجال سواء كانوا يشتغلون بالفلسفة أو الطب النفسي أو الشعر، فقد كانت تكبره فى السن ١٦ عاما، فهي في الثامنة الثلاثين وهو فى الثانية والعشرين فضلا عن كونها كانت امرأة متزوجة فى ذلك الوقت، وقد عبرت عن علاقته به قائلة ذات مرة: " دخل حياتي "رغما عني " وزارني الحب بكل هدوء وطمأنينة.. زارني دون تحد او احساس بالذنب، زارني كما لو أننا نكتشف شيئا مباركا يكتمل بفضله العالم" وهو كان يردد على الدوام ملهمتي ومغناطيسي كلماتي .
كتب إليها ريلكة العديد من رسائل الحب والشعر التى كنت معبرة جدا : "استلمت رسالتك الغالية التي تجعلني استحسن كل كلمة فيها، تلك التي تمسني كما لو أنها الموجة، شديدة القوة ومندفعة، تلك التي تحيط بي كما الحدائق والأبنية تطاول السماوات من حولي، تلك التي تجعلني قادرا وسعيدا كي أقول لك كم كافحت بحماقة في رسالتي الصعبة الأخيرة: ذلك أني أتشوق إليك وهذا ما كان مفزعاً إلى حد لا يمكن وصفه أن أحيا هذه الأيام بدون أية أخبار، بعد ذلك الوداع الغير متوقع و السريع ومن بين انطباعات تكاد تكون عدائية عن هذه المدينة الصعبة، التي لا يمكنك فيها أن تتكلمي إلى في نأيكِ عبر أي شيء على الإطلاق. حتى وصل الأمر إلى تلك الرسالة القبيحة التي أمكنني الآن بشق الأنفس أن أخرجها من العزلة، من الغربة والوحدة غير المحتملة لتجاربي ولم يكن سوى التسرع، الارتباك والحيرة، شيء ما لا بد أن يكون غريباً عليك في الجمال الذي أحط حياتك نفسها به تحت الظروف الجديدة".
فيما لم يقتصر شغف سالومي على الأدب والفلسفة فقط، فقد حاولت تعلم التشخيص والعلاج النفسي من سيغموند فرويد رائد مدرسة التحليل السريرى والتى كان من سخرية الاقدار أنه استلهم تلك الفكرة "العلاج بالكلام" من افكار فريدريك نيتشه ضحيتها الأولي والذي احرق أصابعه ليثبت لها مقدار عشقه لها حيث كان يردد على الدوام انه يحبها حتى الالم ، إلا أن هذا لم يرض فضولها فلجأت إلى فيكتور توسك، أحد انبه تلاميذ فرويد، وبطبيعة الحال لم يصمد التلميذ امام فتنة سالومي فذاب فيها هيامًا وانتحر بعد فترة عاطفية قصيرة الامد بينه وبينها.توفيت المرأة التي ألهمت وجذبت البعض من عباقرة القرن العشرين بذكائها وشخصيتها المميزة في شهر كانون الأول من عام ١٩٣٧. بأسلوب مختلف ورقي، ودّعت العالم في نومها. كانت سالومي ملهمة رغم اللغط الذي احاط بشخصيتها المثيرة للجدل ، إمرأة ذات قوة مدمرة ومحور من الجاذبية الخاصة، جمال محفور في واحدة من أكثر العقول ذكاء ومقدرة على الإحساس في وقتها.
غالباً ما يحجب التاريخ الضوء عن نساء رائدات ، ولا سيما في الروايات التاريخية للبشرية. ومع ذلك، فمن الواضح أن البشرية تتشكل من الجنسين، وليس فقط من الذكور. العالم الذي نعرفه قد تم بناؤه على وجود محوري وقرارات، وأفكار العنصر النسائي.(د.ميرنا داود)