11-03-2021
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
النظام الإقطاعيّ هو نظام سياسيّ واجتماعيّ واقتصادي انتشر في فترة العصور الوسطى، وظهر هذا النظام في أوروبا الغربيّة، وهو يعود إلى أصولٍ قديمة ذات جذور رومانيّة فظهر في الفترة الزمنيّة الممتدة بين القرنين الثامن والتاسع للميلاد، ومن ثمّ امتد من القرن العاشر إلى القرن السادس عشر للميلاد؛ حتى تراجع وانتهى نتيجةً للتقدم التجاريّ والصناعيّ. امتلك النظام الإقطاعيّ طبيعتين، اقتصاديّة وسياسيّة، واختلفتا عن بعضهما حيث كانت الطبيعة الاقتصاديّة المُتعلقة بالمُلكيّة في العصر الرومانيّ والعصر الحديث تعتمد على وجود علاقاتٍ حقوقيّة بمعنى أن لكلِّ قطعة أرضٍ مالك خاص بها، فكانت المُلكيّة المُطلقة للأراضيّ تُعدّ من الحالات الطبيعيّة،
وفي فترة العصور الوسطى كانت الأرض تعتمد على عدّة أنواع من الحقوق؛ حيث إنّ أساس المُلكيّة يفقد المعنى القانونيّ الخاص فيه، أمّا من حيث الطبيعة السياسيّة فكانت الفكرة الرئيسيّة هي سيادة الدولة أثناء العصر الرومانيّ والعصر الحديث؛ حيث تُنفّذ الدولة مهامها وسلطاتها باستخدام الرؤساء والموظفين، وعند تطبيق النظام الإقطاعيّ لم يعدّ للدولة أي تأثير؛ ممّا أدّى إلى انقسام سلطاتها بين مجموعة من الأشخاص، وانتقلت لهم هذه السلطات نتيجةً لانهيار وتراجع الدولة، ويُستنتج من ذلك أنّ النظام الإقطاعيّ ظهر بسبب المُلكيّة المُجزّأة في الطبيعة الاقتصاديّة، والسيادة المُجزّأة في الطبيعة السياسيّة وانقسمت الآراء حول جذوره، فبعض النظريات ترجح بأنّه نظام جرمانيّ، والبعض الآخر يشيرإلى أنه نظام رومانيّ، ونتج عن ذلك ظهور مدرستين لدراسة النظام الإقطاعيّ، وهما: المدرسة الرومانيّة والمدرسة الجرمانيّة. لقد اعتمد تطبيق النظام الإقطاعيّ على وجود ثلاثة أركان رئيسيّة :المجتمع القروي الذي تشكل من الفئات التي عاشت على زراعة الأراضيّ وهم الفلاحون والعبيد ومن ثمّ ظهرت جماعة جديدة عُرِفت باسم الأقنان اما العبيد فهم الذين كانوا يعملون في منازل الإقطاعيين ومن ثمّ أصبحوا يعملون في زراعة الأراضيّ، وكان عملهم في البداية مُقتصراً على تقديم الخدمات للمنازل في إنجلترا، ولم تكن لهم أهمية في فرنسا، مقارنةً مع ألمانيا التي شهدت ارتفاعاً في نسبتهم. الأقنان: وهم الأشخاص الذين كانوا أحراراً، ومن ثمّ أُرغِموا نتيجةً لظروفهم المعيشيّة على التضحية بحُرّيتهم. ويعرف النظام الاقطاعي بانه نظام الدومين ومعناه المالك، وأُطلق عليه عدّة مسمّيات وألقاب في أوروبا، مثل السيد والبارون. استمرّ عصر الإقطاع إلى فتراتٍ طويلةٍ وبدأت قوة الكنيسة في الازدياد، خاصةً وأنّ الأوروبيين أصبحوا لا يدينون بالولاء لحاكمٍ واحدٍ، كما بدأت مساوئ النظام الإقطاعيّ تتزايد، فأخذ السكان يتحدّون تحت ظل الكنيسة، فامتلكت الكنيسة الأراضي وجمعت الضرائب، وأنشأت المدارس الدينيّة والمستشفيات والأديرة. استطاع الفرانكيون الذين سيطروا على فرنسا توحيد أوروبا مرةً أخرى، وكان من أشهر ملوكهم شارلمان الذي حمى الكنيسة من أعدائها وحسّن التعليم فأسس مدرسةٍ في قصره وأحضر المعلمين من أنحاء أوروبا، فبنوا المدارس وترجموا المخطوطات القديمة، إلا أن هذه الدولة لم تدم طويلاً بسبب الخلافات على الحكم بين أبناء شارلمان. عادت أوروبا إلى عصر الإقطاع، وظهرت طبقة الفرسان التي أقامها الإقطاعيون لحماية مصالحهم وتحصيل أموالهم، ومع بروز مساوئ النظام الإقطاعي أكثر وأكثر، أخذ الناس يلجؤون إلى الكنيسة لتخلّصهم من ظلم أصحاب الأراضي، وأصبحت الكنيسة القوة الوحيدة التي تربط أجزاء أوروبا، وكان البابا يمثل أكبر سلطةٍ، إذ يمتلك السلطة الدينية والدنيوية، عاشت أوروبا في ظلّ القوانين الدينيّة التي تفرضها الكنيسة ومارس القساوسة السلطة على الشعب وهذا ساهم في انتشار الاقطاعية الدينية، إلّا أن انتشار الفساد في الكنائس والأديرة قد مهّد لحالات تمردٍ على تعاليم البابا، خاصةً بعد ظهور الحركات الإنسانيّة التي تدعو إلى احترام الإنسان، وظهر بعض المصلحين الذين دعوا إلى إصلاح الكنيسة الكاثوليكيّة، وعاشت أوروربا في هذه المرحلة حروباً دينيةً طويلةً، أدت إلى بزوغ عصر النهضة في ربوع أوروبا، بعد أن تقلّصت صلاحية رجال الدين، وأصبح عملهم يختصّ بالأمور الدينية فقط ومن هنا بدات الاقطاعية باشكالها المختلفة بالتلاشي
يعود الأصل بتسميّة "اقطاعية" الى الفعل العربي "اقتطع"و لقد اجتمعت العديد من الآراء حول استراتيجية الحركة الاقطاعية والتي كانت قد تمركزت سابقا وما تزال تتمركز آنياً وستبقى دائماً حول طبقة كبار الملّاكين. لقد ارتبط الفلاحون او الفقراء بالعمل في أراضي كبار الملّاكين الذين وصفوا بالنبلاء للقيام بأعمال القنانة أيّ بأعمال السخرة والعبودية تحت شرعية عَقدٍ ليس بالضروري ان يكون مكتوبا يقضي بأن يعمل الفلّاحون الفقراء على انتاج أراضي السيّد المُطاع لقاء التعويض الغذائي. وكان الفلاحون في اغلب الأحيان يدفعون ضريبة إضافية من مدخول الأرض والحيوانات التي كانوا يستثمرونها. وكانوا ايضاً يقومون بالخدمة العسكرية الاجبارية التي كانت تُناطُ إليهم عند الحاجة لقتال سيّد آخر يجاري مصالح سيدهم او لصّدّ اعتداءات المُقتَطَعين على ارزاق سيّدهم او عند عدم تسديد الديون من قِبَل المديونين.
شاعت ظاهرة فرار المُقتَطَعين من اقطاعييّهم من شدّة جَورهمِ عليهم الى المدن مقرّ تمركز حركة البرجوازيين الذين تقربوا في البدء من الفلاحين الفقراء تارةً بعروضٍ معيشيةٍ مُغريةٍ وتارةٍ أخرى بالإكثار امامهم من الوعود الاجتماعية العادلة كونهم رأوا بهم طاقةً جديدة مناسبةً لتَسيّر أعمالهم.
ولَم تطل حالة التحالف طويلاً حتى انقلب الاسياد الجُدُد على عمّالهم الحّديثيّ العهد وقاموا باستعبادهم اضعافاً مضاعفةً حتى انه يمكننا القول انهم أي البرجوازييّن كانوا أكثر بطشاً بهم من سادتهم الاوائل.
لا بدّ من الإشارة هنا الى ان الاقطاعية الأوروبية هي الأقرب الينا ولقد كانت المدخل الى مثيلتها المتجددة بربوع منطقتنا.
والجدير بالذكر ان هيكلية الاقطاعية ما قبل العربية والتي تضمّنت الأيوبيين والمملوكيين والفاطميين والقوقاز والاكراد و التركمان (وهم من جنسيات غير تركيّة ان صَحّ التعبير وان نطقت بالتركية) وكل اتباع النواحي التي صبّت في خدمة الجِهّةِ الغالبةِ في زمانها لم تكن لتمارس التوريث الاقطاعي الذي اتانا لاحقا من خواص هيكلية الاقطاعية الأوروبية من مختلف اُمَمِها واما قبائل الفلاحين في لبنان وسوريا وفلسطين فكانت تعرف "بالعشائر".
يدرك كل من لديه معرفة بتاريخ دول المشرق مدى تغلغل الإقطاع الاجتماعي والسياسي، ورسوخه في ثنايا الحياة الاجتماعية. ان الإقطاع السياسي المتوارث، والإقطاع الطائفي، المولّد لانحرافات في التفكير والسلوك، والإقطاع المالي، الذي يفسد كل شئ بات كالمرض المستعصي . ولعلّ نظرة سريعة على أسماء بعض السياسيين والزعماء ورجالات الحكم والدولة في بعض دول المنطقة تؤكد أن المواقع السياسية المتقدمة منحصرة تقريباً في بضعة أسر، تحتكر زعامة الطوائف، وتمثيلها، وتتوارث المواقع السياسية، وتتبوأ الصدارة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. باختصار شديد هي تحتكر السلطة والثروة، كما أنها مستعدة للتضحية بأشياء كثيرة، في سبيل أن لا تخسر ما حصّلت عليه من مكاسب، ومن مكانة تاريخية، وامتيازات، توارثها الأحفاد عن الآباء والأجداد.
ولعل الجدل حول مسألة الاقطاع السياسي ليس جديداً، وفكرة مقاومة الإقطاع السياسي والديني، يمكن متابعتها في التاريخ الأوروبي. فقد عرفت أوروبا العصور الوسطى، النظام الإقطاعي بتجلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وجوهر هذا النظام هو علاقة التبعية، التي تربط التابع بالسيد، والمرتكرة على منظومة أعراف بالية عفى عليها الزمن، ومجموعة طقوس خاصة، حوّلت المجتمع إلى بنيان هرمي، قائم على فكرة "تبعية" الفقراء للأغنياء، والضعفاء للأقوياء، لما يوفّره السيد الإقطاعي لأتباعه من حماية وشعور بالأمان. وبمرور الوقت، أفرز النظام الإقطاعي أسراً تحتكر الثروة والسلطة، وتتوارث المراكز الحيوية.
لقد شكّل النظام الإقطاعي مرحلة في تاريخ تطوّر البشرية وبحسب علماء الاقتصاد السياسي، كانت ضرورية للانتقال إلى المرحلة الرأسمالية. المهم في الموضوع أن أوروبا استطاعت التخلّص من النظام الإقطاعي، وتمكّنت من الانتقال عبر عصر النهضة، إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي، وما أفرزه من آليات جديدة، تعيد صياغة المجتمعات، وتضع قوانين جديدة ومنظومات قيم تنظّم علاقات الناس، لكنها في حقيقة الأمر لم تبتعد كثيراً عن مفهوم التبعية وهذا ما يستغربه البعض بالرغم من الانتقال إلى ما يسمى "المجتمع المدني" الحديث.
في الحقيقة كرّس الانتقال إلى المجتمع الرأسمالي الحديث الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، ولم يلغ المنظومة الإقطاعية، وإنما أعاد إنتاجها تحت مسميات جديدة. ولم تندثر آليات "التبعية"، بل راحت تتعمق وتزيد وتتخذ اشكالا مختلفة كما لم تنته (نظريات) الهيمنة والنفوذ، ولم تنقرض موجبات ومهيئات إنتاج ما يمكن تسميته حالة "القابلية التبعية"، وهو ما نجده في منظومة اقتصاد السوق من طحن للفقراء ، والتمادي في تهميشهم، لحساب طبقة الرأسماليين!
بالتأكيد إن الظاهرة ليست حكراً على مجتمعاتنا المشرقية، ولسنا بحاجة إلى ذكاء شديد، لتبيّن مدى تغلغلها في المجتمعات الرأسمالية الصناعية المتقدمة. وفي الديمقراطيات الغربية المعاصرة هناك عائلات "إقطاعية"، تتوارث المواقع السياسية، وإن كان عبر صناديق الاقتراع، كما تتوارث الشركات العملاقة عابرة القارات. وهكذا تتبدى سطوة الديمقراطية الغربية، أسيرة سطوة رأس المال.
ان المطالبة بمجتمع علماني مدني بديلاً للطائفية السياسية هو الوحيد الذي يستطيع القضاء على هذا المرض على الرغم من تشكّيك البعض في مصداقية هذا الطرح .(د.ميرنا داود)