فتاوى في زمن الكورونا بالجملة والمفرق؟ ما هي حدود الإيمان والتقوى؟ وهل الاعتقاد الديني الراسخ قادر دوماً على أن يغلب الخوف أو الخشية من المرض؟ سؤال تزيد مشروعيته أمام توق الناس الطبيعي إلى الصلاة في أزمنة الشدة والراحة النفسية التي تمنحها العلاقة بالخالق في مواجهة الخوف والهلع ، في مقابل مخاطر التجمعّات الدينية التي قد تسهّل انتشار الوباء.
يتمسّك الناس بمعتقدات شعبيّة أقرب إلى الأساطير، أكثر من تمسكهم بالعقيدة الدينية الأصلية ، وغالباً يكون لتلك المعتقدات سلطة على الناس أقوى من سلطة العقل ، وطغيان المعتقدات الشعبيّة في التعاطي مع الوباء المستجدّ، ليس صادماً ، فحتى يومنا هذا نجد أناساً يتعلّقون بخرافات متوارثة عن عبادات وثنية قديمة ولا علاقة لها بالأديان السماوية ، وبطبيعة الحال لا يخلو الفكر الإنساني من الوسواس والخوف وهذا طبيعي ولكن ما هي حدود العقل والوعي والحكمة في هذا الزمن الصعب؟
لا أحد ينكر ان الفيروس هو أحد اخطر الفيروسات في تاريخ الاوبئة التي عرفها العالم ، ولقد شكل صدمة فرضت على مواطني و مسؤولي العالم اعادة طرح اسئلة كبرى حول الوجود والفناء والبقاء حول السياسة والاقتصاد والدين وحول القيم الاجتماعية ومفاعيل الثقافة وعبر خلخلة كل المعتقدات السابقة والتصورات والمفاهيم المرتبطة بقيم العولمة والمجتمع
بعضهم يقاوم موضوع اللقاح بل ويكفره ونظريات كثيرة تحاربه اليوم حتى قبل وصوله الى بلداننا والجهل لا حدود له، واخرون يعلنون ان الأمر يتجاوز طاقة البشر ، وهو ما عبرعنه رئيس الوزراء الايطالي في بداية الجائحة أن الأمر موكول الى السماء بعد عجز الحكومة عن تطويق الفيروس.
الاقتصاديون مصابون بالذهول و حالة اللاتفكير امام تداعيات الازمة على الصعيد الاقتصادي و كيف ان فيروساً غير مرئي غيّر كل النظريات الاقتصادية. المواطن العادي لم يجد حلاً سوى الهروب الى بيته واحتضان عائلته الصغيرة .التافهون اختفوا عن الانظار ، وهو ما يعكس انهم مجرد بقايا اجتماعية ، وفق تصورات السوسيولوجي الايطالي باريتو ، أي انهم لا يقومون باية وظيفة اجتماعية اساسية داخل منظومة المجتمع.
في كل محنة تاريخية كبرى ، يتوجه الإنسان بخطابه العاقل أو الروحاني إلى أمرين أساسيين: الأمر الأول هو السماء (الدين والروحانيات) ، فعلى الرغم من كل الممتلكات العلمية والعقلية التي اكتسبها الإنسان ، إلا أن السماء تظل حاضرة في وعيه ولاوعيه على حد سواء ، وهو ما يسمى بالدعاء.
والأمر الثاني يتعلق بالعلم (البحوث والتجارب) ، وهو ما نسميه بمعركة العقل في اكتشاف الغموض الذي يحيط بحياتنا ، ومن هذين الأمرين تتولد القوة أو الطاقة التي تعيد إنتاج الحياة بعد كل محنة كبرى، وعبر هذين الأمرين ومن خلالهما يريد الإنسان وهو في لحظة صراع ضد وحشية كل ما يحيط به ، التغلب على فكرة "الخوف" ومواجهتها.
منذ الأزل ، سخر الإنسان تفكيره لردع فكرة الخوف الذي يسكنه حيال حالات "اللافهم" و"العجز" المادي أو المعنوي للعالم الغامض ، وفكرة "ردع الخوف" هي عملية بحث عن "الاطمئنان" ، أي الاستمتاع بجمال الحياة من دون التفكير في خطر الموت.
في كل منعطف تاريخي يرتدي "الخوف" الإنساني رداءً جديداً بحسب المحيط الاجتماعي والسياسي والطبي والاقتصادي والطبيعي ، لذا تظل مقاومة الخوف هي هاجس الإنسان ، وكلما أراد مطاردته عاد إليه في هيئة أخرى ، فالإنسان كثيراً ما يصنع الخوف ثم يحاربه ، وكلما اعتقد الإنسان أن سقف بيته أصبح يحميه ، اكتشف بأن شيئاً آخر يهدد الأرضية التي يقوم عليها البيت برمته ومن أساساته وكلما اعتقد بأن سلاحاً جديداً يحميه اكتشف أن هناك سلاحاً أشرس منه في يد خصمه ، وكلما اعتقد أن دواء أوقف هذا المرض نهائياً ، ظهر وباء آخر يهدد انتصاره وفرحته وكلما اعتقد بأنه اكتشف شيئاً ، فاجأته الطبيعة بشيء أفدح
الحرب مفتوحة من كل الجهات وعلى كل الجبهات والموت في كل ركن ، لذا فالخوف قائم والبحث عن مقاومة الخوف قائمة ، وصناعة الخوف قائمة أيضاً ولعل السخرية والضحك هما الحل الأنجح لما نمر به اليوم. إن ما تُبشر به تلك الأحداث ليس الإفراط في الحذر، بل إنها تشي لنا بواحدة من قصص انهيار الحضارة أمام الأحداث المروعة ، وكيف يتحول البشر بين ليلة وضحاها إلى حالة من الفوضى الهوبزية نسبة إلى الفيلسوف الألماني توماس هوبز، وذلك تحت تأثير إرهاب الموت والحرب من أجل البقاء.
ويرى الفيلسوف هوبز أن الإنسان في الحالات التي تفتقر إلى الضوابط وفي غياب الدولة ، إنه يتصرف وفقا لديمومته وفق قانون حفظ البقاء ، حيث يحق له الاستيلاء على الأشياء التي يحتاج إليها بالقوة ، وهي حالة الفوضى التي يُطلق هوبز عليها اسم "حرب الكل ضد الكل"، فحين يخاف الإنسان من وقوعه ضحية للآخر فإنه يبادر بالاعتداء عليه ، وهو ما ينذر بالحياة التي يصفها هوبز بأنها منعزلة وفقيرة وحقيرة وهمجية وقصيرة.
عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ، توجّهت أعداد غفيرة من الشعب الأميركي للسفر بالسيارة أو القطار لتجنُّب مخاطر الطائرات التي بدت بالنسبة إليهم أكثر سلامة ، الأمر الذي كان مستغرباً للعديد من مراكز الأبحاث ، فبحسب الدراسات الإحصائية الأميركية فإن السفر بالحافلة أو القطار يجعلك عُرضة للموت بخمسة أضعاف السفر على متن الطائرة، أما المسافرون بالسيارة فهم عُرضة للموت بنسبة 73 مرة اكثر من السفر جوًّا ، ولكن العقل البشري يؤكد في كل مرة بأنه يُخطئ مهارة الحساب.(د.ميرنا داود).