مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

صراعات مذهبية في ظل التعددية الدينية

12-06-2020

آفــاق

الدكتورة ميرنا داوود

أستاذة جامعية وكاتبة

في ظل تطور التشدد الديني وتأثيراته الاجتماعية والسياسية في الشرق ، ومع حالة الحراك المجتمعي والمعرفي الضخمة الملازمة للحداثة والعولمة خلال العقود الماضية  وما نتج عنها من تداعي للحدود الجغرافية وللخصوصية الثقافية والدينية ،

صار الحديث عن التعددية الدينية ليس بوصفها رؤية فلسفية وأفكار نخبوية فقط ، بل ضَّرورة إنسانية ملحَّة واحتياج مجتمعي لا غنى عنه وخاصة في ظل ما تعانيه مجتمعاتنا الشرقية من التمزق والصراع المذهبي والعقائدي  وعندما يصبح الصراع عقيدة ، فإنه يستحوذ على روح الدين ويصبح غاية بذاته ، وما يلبث أن ترتد آثاره على أتباع الدين الواحد ، وهنا يتحول الناس من مرحلة الصراع الديني إلى مرحلة الصراع الطائفي. وكما جرى تأصيل الصراعات الدينية عبر العصور وجعلها حروباً دينية ، يجري تأصيل الصراع بين طوائف الديانة الواحدة ، وجعلُه من مسلّمات العقيدة التي لا تحتاج إلى إثبات أو دليل.

لا يحتاج "تديين الصراعات" وشيطنة الخصوم وجعلُهُم شرًّا مطلقًا إلاّ لقليل من البغضاء والجهل وانحدار القيم الإنسانية ، في حين يتطلب حل الصراع وفهم أسبابه الموضوعية إلى كثير من الرقي والتسامح والمعرفة ، وقد تكمن النتائج الإيجابية في تغير ظروف المجتمعات وسياستها لبناء وتعزيز قيم التعددية الثقافية والدينية ، كما يجب أن يتم التعزيز من مفاهيم تقبل الآخرين واحترامهم بغض النظر عن جنسيتهم ومراعاة الظروف التي تحيط بمجتمعاتنا بأكملها ، وبعد إن نتخطى هذه المرحلة نصبح قادرين على التعايش السلمي المشترك ويصبح هنالك تقبل واعتراف بالثقافات الأخرى

لكن في حال عدم تقبل الآخرين وعدم وجود الرغبة والاستعداد للاعتراف بهذه التعددية ، فهذا سوف يؤدي إلى نشوء صراع جديد حول التعددية ، وأهم ما يساعد على عدم تقبل أنفسنا ابتداءً كمشرقيين ، ومن ثم عدم تقبل تعدد الثقافات من حول العالم بأكمله هو انتشار مفهوم الصورة النمطية ، وقد يكون ضحية هذه القولبة أمة بأكملها فوجود مثل هذه الصراعات وانتشار بعض التوجهات الفكرية والسياسية قد تكون مبنية على العدائية وبعيدة كل البعد عن العدل والتي ترتكز على القمع ، كما أنها تعكس الصورة بطريقة مخالفة للواقع من خلال وسائل الإعلام لبعض الثقافات المختلفة التي تأخذ فكرة معاكسة عن "الشرق" فتعزز فينا كشرقيين النفور بين بعضنا البعض وانتشار العدوان والكراهية

ومن هنا أقول إن غياب الحياة المدنية ليس سببه الوحيد هو تراجع الحس الوطني والقومي وحلول التيار الديني في الفراغ الذي تم تركه ، وليس سببه دعم بعض القوى العظمى للتيارات المتشددة ، وانما السبب الاساس هوضعف التيارات السياسية الوطنية والديموقراطية وأسلوب عملها المستند على الشخصانية والمصلحة الذاتية ، بدلاً من النظام المدني الديموقراطي المنظم. 

لقد اكتفى المثقفون والسياسيون الوطنيون بالتذمر من تمدد الاسلام السياسي من دون التفكير باستعادة مشروع الدولة المدنية ، ولذا دخل المد الإسلامي السياسي كموجة جارفة للمكتسبات المدنية والاجتماعية والثقافية ، لأن موجة التكفير كانت هي السائدة  فقوى الإسلام السياسي كانت أكثر تنظيماً من القوى الوطنية في بعض دول منطقتنا فاستطاعت السيطرة على بعض الوزارات ووسائل الإعلام والمرافق الحيوية في المجتمع.

لقد تحالفت بعض الدول الغربية مع هذه القوى الاصولية المتشددة التي اعتبرتها حليفتها كما حدث في العراق وسورية ، ولم تكن ذريعة الحرب على الإرهاب هي السبب في يقظة القوى المدنية ، بل كانت الفظائع والجرائم التي ارتكبتها هذه الجماعات الإرهابية التكفيرية

وقد ظهر مفهوم التعددية الدينية في الغرب خلال عصر الإصلاح الديني في أوروبا كمحاولة لوضع أساس نظري في العقيدة المسيحية للتسامح تجاه الأديان غير المسيحية ، فضلًا عن التسامح مع الطوائف المسيحية المتعددة التي ظلت لعقود طويلة في حالة صراع واحتراب طائفي خاصة بين الكاثوليك والأرثوذكس ثم بين الكاثوليك والبروتستانت ، مما نتج عن ذلك أكثر من خمسة ملايين قتيل بالإضافة الى تدمير مدن بأكملها ، ولم تتوقف الحروب حتى وُقعت اتفاقية وستفاليا للسلام عام 1648، وكان من أبرز بنودها الاعتراف بحرية الاعتقاد والعبادة.

 

  وفي الشرق ظهرت دعوات التعددية الدينية على يد النخب المتنورة وبعض رجال الدين الذين يؤمنون بالتسامح والعيش المشترك والتعددية الدينية هى نظرية تنويرية تشير إلى أن جميع الأديان متساوية في الإيمان بالله ، ولا يوجد دين أفضل من الآخر ولا طائفة مختارة من الله ومميزة دون أخرى فالجميع يبحث عن الله بطريقته الخاصة ويمارس إيمانه بالصورة الأنسب له ، وترتكز التعددية الدينية في جوهرها على تقبل الآخر المختلف عقائديًا ، وهذا يتضمن الإقرار بمبدأ أن أحداً لا يستطيع نفي أحد ، ومبدأ الحرية والمساواة في ظل سيادة القانون ، وهى المبادىء التي ترتكز عليها الدولة المدنية الحديثة ، لذلك فأي حديث عن تجديد للخطاب الديني اليوم أو السعي لبناء دولة مدنية في مشرقنا لابد أن ينطلق من هذه المبادىء ، والسؤال الذي يطرح نفسه وبشدة اليوم اين نحن في هذا المشرق من التعددية بأشكالها وأدبياتها ؟!(

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما