10-05-2020
لكل مقام مقال
الفت التنير
كاتبة وشاعرة لبنانية
لفتني في إيطاليا أكثر دول المعمورة تأثراً بوباء كورونا، موقف الكاهن دون جوزيبي بيرارديللي الذي أهدى حياته لشاب كان بحاجة ماسة لجهاز تنفس، تبرع بيرارديلي بالجهاز الذي كان يتنفس من خلاله لينقذ حياة شاب لا يعرفه. لم تنظّم لبيرارديللي جنازة لاعتبارات وقائية صحية معروفة، لكن أهل المدينة وقفوا له احتراماً في شرفاتهم تحية لتصرفه الإنساني النبيل. مثله فعلت أيضاً سيدة بلجيكية في العقد التاسع من عمرها. هذه السيدة الجميلة بكل ما يتضمنه الجمال من معنى، رفضت استخدام جهاز التنفس لتمنحه لشاب في مقتبل العمر. وقالت ابنة التسعين عاماً للأطباء : "لقد عشت بالفعل حياةً جميلة.. أعطوا هذا الجهاز لمن هو أصغر سناً". وتوفيت بعد يومين.
لفتني أيضاً موقف لعلم من أعلام عالم الأزياء والعطور جورجيو أرماني الذي تبرع لبلده إيطاليا بمبلغ مليار و250 مليون أورو لمواجهة فيروس كورونا وقال في وطنه جملة مؤثرة تفوق بأهميتها وبما تحمل من حب، أضعاف ما تبرع به من مال بقوله "لن أقبل أن تركع إيطاليا على ركبتيها ولو كلفني هذا الأمر كل ما أملك"...
في الجهة المقابلة، وسأقول بغير حرج، في العالم السفلي، نظم أحد المستشعرين العرب على قناته في اليوتيوب، قصيدة هزلية ليتسلى أثناء الحجر الصحي في المنزل، عنوان القصيدة "عنترة موديل 2020" يجاري فيها معلقة عنترة الشهيرة ومطلعها "هل غادر الشعراءُ من متردّمِ...." القصيدة التي وصلتني عبر واتسآب، ركيكةٌ نظماً ووزناً، وهذا ليس شأني، لكن ما صدمني فيها بيتان في آخرها يبث فيهما كمّاً من الكره والشماتة بضحايا كورونا في الغرب يقول:
"هلا سألت الغربَ يا ابنة مالكٍ كم مات منهمْ، مات بغير تكتّمِ
فلكم أذاقهُمُ كورونا ذلّةً ويسومُهم قتلى بغير تكلّمِ!...
هذا القلب الذي يحمل كل الضغينة للغرب، لا يجد غضاضة في بثّ ما في نفسه من سواد ونقص تجاه الغرب في قضية إنسانية جاوز ضحاياها على مستوى العالمين الغربي والشرقي الثلاثة ملايين بين مصاب ومتوفى. ومن بين هؤلاء طبعاً الكاهن الإيطالي النبيل والسيدة البلجيكية الراقية وكثر غيرهم. وفي الوقت الذي يتسلى فيه رجل فارغ متعطل بنظم أبيات سخيفة لا تقدم للبشرية حتى العزاء، ثمة في مختبرات العالم جنود علم وبحث يصلون الليل بالنهار لإيجاد لقاح للكورونا، وثمة في مستشفيات العالم جيوش من أطباء وممرضين (ات) يقفون في الصفوف الأمامية في جبهة إنقاذ مئات آلاف المرضى من بين براثن الموت.
أما النموذج السلبي الأكثر إيلاماً، فيتصل بدولة عربية افريقية هي جمهورية موريتانيا الإسلامية. أنا شخصياً لا أعرف عن موريتانيا أكثر من أنها بلاد تمارس التمييز العرقي والطبقي ضد فئات من أبنائها (الحراطين) ويشكلون ما بين 20 الى 40% من السكان، وهم من أبناء الأرقاء السابقين وما فتئوا يصنفون تقليدياً واجتماعياً في خانة العبودية. هذا البلد الموبوء بالفقر والتخلف، لم يتأذّ كثيراً من وباء الكورونا إصابات محدودة فقط. لكن ما دفعني إلى ذكره، خبر قرأته بالصدفة عن ما يسمى بـ "هيئة العلماء الموريتانيين" هذه الهيئة الدينية، التي استنفرت طاقاتها كلها لمساعدة المسلمين الفقراء، وحفظاً منها "لكراماتهم"، تكرّمت بتوزيع 2000 كفن-احتياطاً لحالات الموت بالكورونا- لمغسل أحد مساجد العاصمة نواكشوط، وبإشراف شخصي من الأمين العام للرابطة التي أعلن عن تأسيسها قبل فترة قليلة بحسب الخبر... نعم. أول غيث نشاط الهيئة: توزيع أكفان على الفقراء وليس إعانات مادية أو عينية تقيهم غائلة الجوع أو تحميهم من المرض. فالفقير بعرفهم حين يموت، يحمل همّ كفنه، وليس همّ عياله. لذا يجب تجهيزه للموت وليس لصراع البقاء وأمل العيش. أمثال هؤلاء من أرباب ثقافة الموت على حساب الحياة، وثقافة امتهان الإنسان واسترقاقه في التخلف والجهل، هم وأمثالهم ممن ذكرنا وممن لا يتسع المجال لذكرهم، وباء العالم السفلي الذي نكتوي بجحيمه أحياء. أما التحية الأجمل والاعمق، فيستحقها كل من بذل حياته ليحيي إخوان له في الإنسانية، ولكل عقل يبدع، ويد تبذل، وعين تسهر على إنقاذ سكان العالم من مختلف انواع الأوبئة والكوارث.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
بين إثبات الوجود وتسجيل المواقف، لبنان يغرق
لكل مقام مقال
ملاحظات على هامش الجلسة الاولى لمجلس النواب
مقالات مختارة
بين دويلة ولاية الفقيه و دويلة ولاية النبيه… طار البلد!
تقارير
الحكومة والرسالة الملغومة
لكل مقام مقال
نحن أبناء الحياة وأنتم الى مزبلة التّاريخ
أبرز الأخبار