10-04-2020
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
يُعاني صُنّاع السياسة حول العالم في التعامل مع فيروس كورونا ونتائجه ، حيث سيكون عليهم مواجهة حقيقة أن الاقتصاد العالمي لا يعمل كما كانوا يتخيلون. فالعولمة تنادي بالتخصصية المتزايدة في أرجاء البلدان كنموذج ينطوي على العديد من المزايا ، لكن نقاط ضعفه مذهلة أيضا حيث يمكّن محتكر خدمات وحيد أو مناطق محددة في العالم تحتكر انتاج صنف معين فحسب ، أن يتسببوا في هشاشة مفجعة في أوقات الأزمات بانهيار انظمة الإمداد ، وربما تتكشف المزيد من نقاط الضعف هذه في الشهور القادمة.
ولعل النتيجة تكون تحوُّلا في السياسات العالمية ، فقد تُقرِّر العديد من البلدان ، بما أن صحّة وسلامة مواطنيها على المحك أن تحظر الصادرات أو تُصادر إمدادات ضرورية للخارج ، حتى إن عنى الأمر إلحاق الضرر بدول حليفة أو جارة لها. ويمكن لانسحاب بهذا الحجم من العولمة أن يحوِّل السخاء إلى أداة أكثر فعاليّة في التأثير للدول التي تستطيع تحمل تكلفتها.
تروج الحكمة التقليدية حول العولمة في أنها خلقت سوقًا دولياً مزدهراً ، مما سمح للمصنّعين ببناء أنظمة توريد مرنة عن طريق استبدال مورد بمورد آخر حسب الحاجة. فقد سميت ثروة الأمم بثروة العالم ، حيث استفادت الشركات من تقسيم العمل المعولم ، وأنتج التخصص كفاءة أكبر مما أدى بدوره إلى النمو. لكن العولمة خلقت أيضًا نظامًا معقدًا من الاعتماد المتبادل، مما أدى إلى ظهور شبكة متشابكة من الإنتاج التي ربطت الاقتصاد العالمي معاً ، حيث يمكن الآن تصنيع مكونات منتج معين في عشرات البلدان.
لقد أصبحت الدول أكثر اعتماداً على بعضها البعض، لأنه لا يمكن لأي دولة أن تسيطر على جميع السلع والمكونات التي يحتاجها اقتصادها ، وتم دمج الاقتصادات الوطنية في شبكة عالمية واسعة من الموردين ، كما ربط العديد من المنظرين بين عالميّة الوباء ونهاية العولمة التي وزعته على العالم ، وأن الوباء الذي أقعد بل احتجز مليارات البشر في منازلهم وشل حركة المطارات ، وتسبب بإغلاق المصانع وبانهيارات اقتصادية كبرى ، سيغيّر من طبيعة العالم ويخلق بديلاً أفضل عنه. كان يشار إلى العولمة بأنّها نظامٌ عالمي ، تخضع فيه الدول الأقلّ تطوّراً للأكثر تطوّراً، وتنهار بسبب ذلك الأنظمة الوطنيّة والقوميّة ، وبذلك يصبح العالم قرية كونيّة وكل دوله مترابطة ، وأن العولمة تمثل نهاية التاريخ.
لقد فضح الوباء مما لا يقبل الشك أن العولمة تفرض هيمنةً عالميّة لصالح بعض الشركات الكبرى ، بينما العالم يزداد حروباً وإفقاراً وآلاماً وأوبئة وأدّت سياساتها المتطرفة إلى ثوراتٍ وحركاتٍ اجتماعيّة كبرى هدفها إعادة النظر بالعولمة لتكون إنسانيّة وتحقق العدالة والمساواة والحرية وليس مصالح الشركات الكبرى. المثال الأكثر وضوحاً عن الأكذوبة هو أن دول الاتحاد الأوروبي لم تتكاتف كاتحاد ووحدة، بل إن كل دولة فيه تحاول النجاة بنفسها على مبدأ اللهم أسألك نفسي.
والوباء الذي تنامى عالميّاً بقوة وأظهر هشاشة النظام الصحي العالمي يقتضي إنتاج عولمةٍ إنسانيّة ، وهو ما ناضل من أجله مناهضو العولمة قبل أكثر من عقد. طبعاً لا أهمية هنا للآراء عن ثورةٍ منتظرة في الأخلاق أو مثاليات سيبزغ نورها وأن البشريّة ستعدل عن إخفاقاتها والوباء الذي يضرب الأغنياء والفقراء على حد سواء، سيقيم عالماً جديداً يستند إلى الأخلاق وليس إلى المصالح. لا صحة لذلك وهو يتجاهل حالة العالم تحت سيطرة الوباء ، حيث يستغل التجار أدوات الوقاية الصحيّة ويرفعون من أسعارها أو يصدرونها بينما سكان دولهم بحاجةٍ إليها ، وكذلك لم نشهد ظواهر اجتماعيّة وسياسيّة توضح أن عالماً جديداً سينبلج وستكون مرجعيته حقوق الإنسان والأخلاق.
يتبرع بعض الأغنياء حول العالم بالمساعدة في حين أن الحكومات تقف عاجزة عن الامدادات ، والدول ترصد مليارات لمواجهة الوباء وإنقاذ الشركات ، ولكن ذلك كله سيتوقف بمجرد السيطرة على ذلك الوباء ، وهو لإبعاد مسؤوليتهم عن الأحوال المتدهورة للقطاع الصحي في العالم ، وليس دليلاً على أن عالماً يموت وآخر أرقى يولد.
أبرز الأخبار