10-03-2020
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
وليست العلمانية ضد الدين ولا تتساوى مع الإلحاد كما يصوّرها البسطاء والسذج ، ففي الولايات المتحدة مثلاً خدمت العلمانيّة الدّين بأن حمته من تدخّل الدّولة وبتعريف أدق ، فالعلمانية عكس الإكليروس أو الطّبقة الدّينيّة الحاكمة ، وإبّان عصر النّهضة بات المصطلح يشير إلى القضايا الّتي تهمّ العامّة أو الشّعب بما في ذلك أسلوب فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية ، أي فصل الدين عن الدولة بمفهومها العام ، هذه الدولة التي ينبغي أن تكون حيادية تجاه كافة الأديان والمذاهب ، وتتجنب فرض أية عقيدة دينية أو مذهب ، وهذا ما تدعو إليه العلمانية في جوهرها الا وهو حرية الاعتقاد والتعبير، فالعلمانية تضمن حماية الحريات الدينية على جميع الأصعدة ، بما في ذلك حريات العبادة ومن هنا نلمس بأنها ليست ضد الدين في المبدأ.
بالإضافة الى ذلك فإنها تضمن تشكيل التنظيمات السياسية والنقابية في داخل المجتمع المدني بحيث يمكن لأي إنسان أن يكون متديناً وعلمانياً في نفس الوقت. نعم هذا ممكن، بمعنى أن يمارس عبادته الخاصة ولكن لا يفرض على غيره ممارسة الشعائر والعبادات ذاتها ، بل يؤمن بأن لكل إنسان الحق في أن يعتقد ما يشاء ويتبنى ما يشاء من عبادات. إنّ ما يجهله البعض هو أن كلمة العلمانية تنسب الى العالم ، ولا علاقة لها بالعلم ، فهي تعني الفصل الديني عن الأمور الدنيوية ، حيث تدار الشؤون الحياتية من خلال مؤسسات مدنية ، عوضاً عن المؤسسات الدينية التي تنظر إلى كل ما حولها من خلال الدين.
يظن البعض عن جهل متعمد أنّ إقامة دور للسينما وإحياء حفلات موسيقية والسماح للمرأة بقيادة السيارة بأنها العلمانية المطلقة وهذا هو الغباء بعينه، ففي البلدان التي لا تصان فيها الحريات الفردية في ممارسة الشعائر الدينية، ولا تصان فيها الأديان والطوائف والمذاهب المختلفة ، لا يمكن ان تتحول إلى دول علمانية.
وبغض النظر عن كل ما ذكرته سابقاً ، فإن بلداننا التي تشهد اليوم كل هذه الأزمات والصراعات، اصبحت العلمانية هي مطلب أساسي وحاجة ماسة للخروج من هذا المأزق التاريخي ، لأن الدولة العلمانية تصبح هي الضامن الأوحد والمحايد للسلم الأهلي ، وتضع جميع الأديان والمذاهب في كفة واحدة.
والعلمانية لا تقوم إلا في قلة من البلدان مثل فرنسا والولايات المتحدة والمكسيك ، وكثيرة هي بالمقابل الدول التي تُعرف في أوروبأ على أنها نصف علمانية كألمانيا وبلجيكا وهولندا ، فالدولة في ألمانيا مثلاً حيادية من وجهة النظر الدينية ولا تنتصر لدين على دين ولا وجود فيها لدين دولة أو لكنيسة قومية ، وفي الوقت الذي تلتزم الدولة في بلجيكا بالحياد الديني فإنها تعقد صلة خاصة مع ديانة الغالبية الا وهي الكاثوليكية.
وهنالك دول شبه علمانية وهي الدول اللاتينية في جنوب أوروبا مثل البرتغال واسبانيا وإيطاليا ، وتعمم اسبانيا التعليم الديني في المدارس وتسمح بوجود مرشدين روحيين في المستشفيات والسجون. أما في إيطاليا التي لها وضع خاص بحكم كونها مركز البابوية ، فإن الدولة تعترف رسمياً بأن مبادئ الكاثوليكية تمثل جزءاً من التراث التاريخي للشعب الإيطالي وتعفي الكهنة من الخدمة العسكرية وتقر بمشروعية الزواج الديني وتسمح لهم بالتعليم الديني في المدارس العمومية على نفقة التلاميذ وأهاليهم. أما بريطانيا فتقدم نموذجاً لدولة لا علمانية بدون أن يعني هذا أنها دولة دينية ، فالكنيسة الأنغليكانية ما زالت لها في إنكلترة صفة الكنيسة الرسمية والملك أو الملكة هم رأس هذه الكنيسة ، ويشرف البرلمان على تنظيم الكنيسة وشؤونها العبادية. وتقدم الحكومة للكنيسة نصف كلفة صيانة مبانيها وتعفي مداخيلها من الضريبة ، كما أن الأساقفة الأنغليكان أعضاء شرعاً في مجلس اللوردات.
وهذا هو أيضاً حال اليونان التي أقرت دستورها لعام 1975باسم (الثالوث الأقدس المشارك في الجوهر وغير المنقسم) والتي تعتبر الأرثوذوكسية ديانة سائدة (98%من السكان)أو بتعبير آخر (كنيسة قومية) ، ولكن في جميع هذه الحالات ومهما تفاوتت درجة العلمانية بين نصف علمانية وشبه علمانية ولا علمانية ، تضمن الدول الأوروبية الحرية الدينية أي حرية اعتناق الدين وحرية تبديله.
وهنالك دول لم تذكر العلمانية في دساتيرها ولكنها لم تحدد دينًا للدولة ، وتنصّ قوانينها على المساواة بين جميع المواطنين وعدم تفضيل أحد الأديان والسماح بحرية ممارسة المعتقد والشرائع الدينية ، وإجراء تغيير في الدين بما فيه عدم التدين بما يشكل صونًا لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات الدينية، وهي بالتالي تعتبر دولاً علمانية.
ومما تقدم نخلص إلى أن العلمانيّة لم تكن إلحاداً ، فأول من أوجد مُصطلح "علمانية"عام 1851 هو الإنكليزي جورج هوليوك (1817-1906) بقوله "لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية فهي فقط منفصلة عنها أو بتعبير مختلف محايدة ولا تتعارض مع الدين" وعليه فالعلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة ، كما يتم تصويرها في الثقافة الشرقية ، إنما هي طريقة حكم وبنفس الوقت عدم تدخل الدين بشأن الدولة. فهي تعتبرحركة باتجاهين وليس باتجاه واحد.
وعليه فالعلمانية بمعناها المتداول ليست جزءاً من الليبرالية التي تفصل الدين فقط عن الدولة وهذا لا يكفي ، إنها كما ذكرت سابقاً حركة باتجاهين ، فقضيتها لا تقتصر على فصل الدين عن الدولة ، وإنما فصل الدولة عن الدين. و للأسف الشديد تحولت العلمانيّة كأغلب المصطلحات التي يتداولها العامة إلى أيديولوجيا خلاصية تماماً كما الليبرالية والديموقراطية والثورة فهم يرونها جزءاً من الثورة العلمية والبعض يعتبرونها جزءاً من اليسار ومن شريعة ماركس ويروجون لها على هذا الأساس، أو جزءاً من التقدم المعرفي، أو حلاً لكل المشكلات التي تتأتى عن الصراع الديني أو الطائفي.
ولعل مفهوم "الإيديولوجيا" هوالأخطر في فهم العلمانية بحيث يُتَصور البعض أن كلّ الدول المتقدمة علمانية ، أي لا تتدخل الدولة في مسائل الدين ولا تمارس الطوائف الدينية أي تأثير مباشر على الشؤون العامة ، فمن الخطأ تحييد الدين عن المجتمع. وبالعودة إلى التاريخ ،نجد أن العلمانية قد بدأت سياسيّاً مع لويس الرابع عشر في فرنسا الذي حاول إخضاع الكنيسة للدولة وجعلها تدفع الضرائب (وفشل في ذلك) وهذا يعني أن بدايتها كانت تدخل الدولة في شؤون مؤسسة دينيّة ، وكذلك في بريطانيا حيث بدأت مع هنري الرابع لتوحيد الصلاة يوم الأحد. وفي تعريف الدولة المدنية والتمييز بينها وبين الدولة العلمانية لأن الكثير من العامة تمتلك مفاهيم مغلوطة وفهم خاطئ بالخلط ما بين المفهومين. تُعرف الدولة المدنية على أنّها الدولة التي تحمي جميع أعضاء المجتمع وتحافظ عليهم بغض النظر عن اختلاف إنتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية، كما تعني اتحاد وتعاون الأفراد الذين يعيشون داخل مجتمع يسير وفقاً لنظام معين من القوانين، ويقتضي ذلك وجود قضاء عادل يطبق تلك القوانين، إذ إنّ من الشروط الأساسية لقيام هذه الدولة هو ألا يتعرض أي فرد وشخص فيها لانتهاك أي من حقوقه من قبل طرف آخر أو فرد آخر، فهناك سلطة عليا في الدولة تُعرف بسلطة الدولة، والتي يلجأ عادةً إليها الأفراد حينما تهدد حقوقهم بالانتهاك.وقد سبق وتطرقت لموضوع الدولة المدنية في مقالات سابقة .
أبرز الأخبار