الأفكار السياسية التي أنتجت النظم التي تتحكم في السلطة كانت في غالبها نتاجًا لمتغيرات الدين والواقع الدنيوي، وهناك مفارقة مهمة في هذا الإطار، وهي أنه كلّما اشتدت السطوة الدينية اتجه العقل السياسي إلى مخرجات تفك الخناق عن الواقع.ليست العلمانية ولا غيرها من الأفكار السياسية مبدأ جوهرياً مجرداً عن مصالح الناس
وليس من المنطقي أن ننتظر من جماعات ما أن تؤيد أفكاراً سياسية لا تدر عليها سوى التهميش. العلمانية هي جسر عبور إلى ضمان المساواة وتكافؤ الفرص في المشرق الذي يعاني من التشدد والتطرف الديني والخطر المتمثل في الارهاب التكفيري والإسلام السياسي الذي يقوم على التمييز الطائفي والمذهبي في مبدئه. ليست المشكلة هنا، المشكلة تبدأ حين تنتقل الجماعات من مناصرة فكرة تنطوي على مبدأ مساواتي، إلى ممارسة القمع والتهميش ضد الآخرين باسم هذه الفكرة. هنا يبدأ مستوى آخر من الحديث.
ليست العلمانية من السوء بما يجعلها تضادًا مع الدين، وإنما سلوك المؤسسات الدينية والقائمين عليها ما يجعلها موضوعًا لمعركة من أجل احتفاظهم بالسيطرة على العملية السياسية وعقل الجماهير، وهو تصرف استحواذي يعتقل قدرة هؤلاء على تحديد خياراتهم، ولذلك حين يستطيل العقل الديني إلى الشأن السياسي فإن الفصل يصبح لازمًا وضروريًّا، ولم تكن العلمانية كفكرة سياسية ذات ضرر على دين الناس وعقائدهم وإنما هي في سياقها السياسي تنزع من رجال الدين ومؤسساتهم ما ليس لهم، فهي معنية بنقل السلطة من المؤسسات الدينية إلى الهيئات المدنية، وحتى في مسارها التربوي معنية بتحرير التعليم الوطني من (المؤسسة الدينية) وصبغه بالصبغة الدينية.
العلمانية ليست بالضرورة أنها تعادي الدين وإن كان بعض مفكريها قد فعل ذلك، ولكن ذلك لا يصلح تعميمًا، وحين ننظر في تجارب الدول التي التزمت العلمانية فإنها لم تخرج عن فكرة الفصل بين السياسي والديني، باعتبار أن الدين في وجدان الناس، والسياسة في دواوين الحكم، بل هناك احترام تام لدين الناس وعقائدهم، وإذا نظرنا إلى فرنسا فإن عطلاتها الرسمية في غالبها مبنية على الأعياد الكاثوليكية، وينص دستور أستراليا العلمانية أيضًا على عدم تقييد أي حرية دينية، أو ممارسة للشعائر الدينية، أو تمييز بين معتنقي مختلف الأديان في مناصب الدولة والحياة العامة، وذلك إلى جانب تقديم الدعم للصلاة المسيحية في المدارس الحكومية، وتمويل المدارس الدينية.
وحين ننظر إلى المجتمعات العربية فإن جميع الدول العربية تعلن عن ديانة الدولة باستثناء سوريا والصومال وجيبوتي، ولم توجد مشكلات حقيقية في عدم الإعلان؛ لأن الدين من لوازم الذات الإنسانية، وعلاقة بين المخلوق والخالق الذي يحاسب ويعاقب ويغفر ويكافئ، وليس البشر، وذلك يتوازن مع متطلبات الاستقرار لأي دولة، فمنذ أكثر من قرنين لم تنشب معارك وحروب ومشاجرات بين الدول الغربية التي قدّمت للفكر الإنساني مثل هذه التجارب، وكان من بين آخرها “العلمانية”، ما يشير إلى أنها أحد الظواهر التاريخية الاجتماعية التي ينبغي أن نتوقف عندها ونتعامل معها بموضوعية؛ لأننا بحاجة إلى تطوير النسق الإنساني والوعي الذاتي والاجتماعي بصورة متجددة وحيوية خاصة في ظل وجود أقليات ومذاهب وتعدد إثني وفكري لا يمكن أن يخضع لمنظومة تخلط الديني بالسياسي، وتسمح باختراق المؤسسات الدينية والقائمين عليها لعقول الناس بذات النهج الذي سارت عليه .
العلمانية -في تقديري- تمثل الاختراق النهائي لحركة التاريخ والممارسة السياسية المتزنة والمتوازنة، وهي بصورة عملية الأنسب للأقليات الاجتماعية والدينية حتى تتخلص المجتمعات من الآفات الأيدلوجية التي تعزز الكراهية والتنابذ والفرقة، وتسيء للتعايش السلمي داخل المجتمع الواحد، وليست العلمانية تضادًا مع الدين، أو فكرة غير سوية ولا منطقية، وإنما هي نموذج فكري وتطبيق سياسي يواكب المتغيرات ويستوعب مفهوم التجديد، فالدين مستقر في العقل الفردي والاجتماعي وضمائر الناس، وليس لفرد أن يحدد الأوجه السلوكية الجالبة للمغفرة والرضا؛ لأن ذلك لله، وإنما نفعل نحن في إطار درايتنا بشؤون دنيانا ومتغيرات الزمان وأحوال الناس، وطالما هناك تطور اجتماعي مستمر لا بد أن يحدث تغيير يستوعب المتغيرات الاجتماعية والسياسية، فالسياسة باعتبارها فن الحكم وتدبير شؤون الحياة تخضع لتحقيق المصالح وفقًا لسياقات الواقع.
التغيير حتمي وضروري، في الحراك التاريخي للمجتمعات، ولا يمكن للمؤسسات الدينية أن تتصلّب في أفكارها ولا تواكب حركة الواقع، وأن تجعل من كل فكر جديد أو متجدد عدوًا وهميًّا، ذلك تجميد وعمل غير منطقي بقواعد ظرفية مثل “لا اجتهاد مع النص” التي تعمل على تعطيل العقل، فيما الدين يرتقي بالعقل، ويطلب منه أن يفكر ويتدبر وينظر ويقيس ويجتهد ويعمل، وليس من مصلحة المجتمع أن يبقى على حال واحدة لا تتغير أو تتبدّل