02-03-2020
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
والجدير بالذكر أن العثمانيين لم يكن لهم أي رصيد حضاري أساساً ليقدموه للحياة العلمية في المشرق بل على العكس تماماً ، فالأتراك أثبتوا عجزهم عن إبداع حضارة خاصة بهم في كل زمان ، وحياتهم الفكرية تكاد أن تكون خلواً من الأصالة. تنوعت تلك المذابح التي تفنن العثمانيين وبرعوا بها عبر تاريخهم الدموي والذي راح ضحيتها أعداد يصعب حصرها، ما بين التصفية الجسدية بالقتل بالسيف أو التجويع وترك الأمراض تنخر في عظام الناس كما حدث في الشام ولبنان على سبيل المثال.
وكذلك بالتصفية المعنوية عبر تفريغ المدن التراثية من تراثها وتهريبه إلى تركيا كما حدث في مصر والشام، وترحيل الصناع الحرفيين المهرة قسراً إلى الأستانة لبناء المساجد والقصور الفخمة لآل عثمان، أو بتصفية مدن من أهلها الأصليين كتهجيرهم منها بالطرد والتجويع لتتريكها.
وأرصد في هذه الورقة البحثية، أمثلة لهذه المذابح ، هي ليست إلا نقطة في بحر ، على أمل أن تدفع شعوب منطقتنا إلى التقليب في صفحات تاريخهم، ومشاهدة كيف تفنن الأتراك في تصفيتهم أو محاولة إذلالهم بكل الوسائل، تحقيقاً للطمع التركي القديم في احتلال المنطقة منذ أن جاءتها قبائل الغزو التركية من شقوق جبال وسط آسيا كمرتزقة .
ولا شك بأن إعتراف البرلمان السوري بـالإبادة الجماعية للأرمن في آواخر عهد الإمبراطورية العثمانية قد أثار موجة غضب واسعة في تركيا وصب مزيداً من الزيت على نار العلاقات المتوترة أصلاً بين سوريا وتركيا ، خصوصاً في خضّم نجاحات سوريا في تطهير حلب من نجس التكفير والإرهاب التي تُعتبر تركيا الراعية والمعاضدة له ، بما مارسته وتمارسه من وحشية قي الشمال السوري وبصورة خاصة في سعيها الحثيث للتغيير الديموغرافي والتطهير العرقي المبرمج بحق المسيحيين وكنائسهم وأديرتهم التاريخية ، فهل يكون مسماراً جديداً في نعش العثمانيين؟
ضجة سياسية واسعة في تركيا أثارها الاعتراف السوري وقبله الأميركي والألماني بـالإبادة الجماعية للأرمن لصالح قرار يعترف بأن عمليات القتل الجماعي التي تعرض لها الأرمن بين عامي 1915 و1917 هي إبادة جماعية بما لا يقبل الشك. وقد تعرض الأرمـن في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى أبشع وأشنع الجرائم في تاريخ البشرية الحديث ، حيث تمثّلت في قيام ما سُميَّ بالسلطنة العثمانية قُبيل انهيارها الأخير، بالتهجير القسري للأرمن والتعذيب الوحشي لهم ، وصولاً إلى مذابح جماعية حصدت أرواح أكثر من مليون ونصف أرمني لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا من أمهَر أقليّات وقوميات السلطنة البائدة.
والجدير ذكره أنه في سوريا ، وعلى الأقل قبل إندلاع الحرب السوداء عاش الأرمن كغيرهم من مكوّنات النسيج السوري ، حالة تعايش رائعة كانوا خلالها ، وخاصة في حلب من كبار الصناعيين والحرفيين والتجار، إضافة إلى إسهاماتهم المتميّزة في كل مجالات الحياة السورية.
وبالعودة الى التاريخ وتحديداً حقبة الحرب العالمية الأولى فقد تبنّت حكومة الاتحاديين سياسية (الطورانية) ، واعتُبِرَ الشعب الأرمني العائق الوحيد لتنفيذ هذا المخطط ، فكانت الإبادة هي الوسيلة الوحيدة لوقف نمو وإزدهارالأرمن ومنع توليهم مناصب رفيعة في مجالات الاقتصاد والثقافة في ظل الهيمنة العثمانية أنذاك.
وعلى الرغم من أن تركيا مُستمرة في إنكارها لمذابحها المرتكبة قبل أكثر من مئة عام ، إلا أن هذه القضية تشهد تطورات كبيرة من خلال اعترافات وإدانات العديد من الدول والبرلمانات والمدن والمنظمات الدولية والشخصيات البارزة ، وهذا في حد ذاته إصابة مباشرة للعثمانيين وما قاموا به في السابق ويحاولون تكراره اليوم على الجغرافيا السورية من إنتهاكات صارخة يندى لها الجبين.
ولا ننسى أنه خلال الحرب السورية تعرّض المسيحيون للكثير من الضغوط وحملات الترهيب ، وصلت إلى حد التهجير القسري من بعض المناطق الخاضعة للتكفيريين الممولين مباشرة من أنقرة ومن بعض الدول الأقليمية التي تتبنى الحركات الارهابية الراديكالية ، وفي حقيقة الأمر فإن الحرب على سوريا كان لها تأثير كبير على الأرمن كباقي مكوّنات الشعب السوري.
لكنَّ أكثر حدث أثّر في السوريين الأرمن حَصَل حين أقدم تنظيم داعش الإرهابي المدعوم من تركيا على تفجير كنيسة شهداء الأرمن في مدينة دير الزور في 21 أيلول 2014 ، فلقد لقي تدمير الكنيسة إدانة عالمية واسعة النطاق، واعتبر هذا الاعتداء على الأماكن المقدّسة دليل آخر على الطبيعة الهمجية لتنظيم داعش الإرهابي ، كما أنه تتمة لتدمير عشرات الآلاف من النصب التذكارية الأرمنية والشواهد المسيحية التي تعود الى القرون الميلادية الأولى فلقد اختلفت الأزمنة ولكن النهج العثماني واحد ذات طبيعة إجرامية لا تقبل الشك.
والجدير ذكره أن الأرمن في حلب حيث تتموضع الكثافة السكانية الأرمنية ، عانوا من تدمير المعامل والمنشآت الصناعية والتجارية جرّاء الإرهاب الذي طال المدينة ، فاضطر الكثيرون لمغادرة حلب إلى وجهات مختلفة. نعم إنها حلقات إقتلاع جديدة مارسها العثماني ولا يزال على الارض. ولا يمكن أن نغفل قافلة الشهداء من السوريين الأرمن، العسكريين والمدنيين، وكذلك الجرحى الذين كانوا ضحية الحرب على سوريا.
وقد ظهرت حساسية الاعتراف بـ "الإبادة الجماعية" للأرمن بالنسبة لتركيا في عام 2016 أيضا ، ففي ذلك الوقت أصدر البرلمان الألماني (بوندستاغ) قراراً اعتبر فيه مذابح الأرمن "إبادة جماعية" ، وقد أثقل ذلك القرار كاهل العلاقات الألمانية التركية ، ومن ثم اتى قرار الكونغرس الأمريكي وبعد ذلك مجلس الشعب السوري.
واللافت في هذا السياق أنّ أكثر من نصف ضحايا المجازر في تلك الحقبة لم يكونوا من القومية الأرمنية بل كانوا سريان سوريين من منطقة طورعابدين ومنطقة أورفة ومن العديد من المدن السورية الأخرى ، بالإضافة إلى السريان الساكنين في بلاد الرافدين ، ومن أهم تلك المجازر هي مذابح سيفو التي وقعت بين عامي 1914 و1923، ومجزرة ديار بكر ومجزرة طور عابدين ومجزرة دير الزور التي هاجر إليها عدد كبير من السريان والأرمن هرباً من القتل ، وكانت حملات التطهير متعمّدة ومقصودة ضدّ المسيحيين، وقد تمّ التخطيط والإعداد لهذه الإبادة من قبل، فهذه المجازر حصدت الملايين من السريان والأرمن.
وتنفي أنقرة إلى اليوم وقوع هذه المجازر من دون أن تقدّم تفسيراً منطقياً لاختفاء كلّ هؤلاء البشر بين ليلة وضحاها ، والملفت للنظر أن الحكومات الغربية تتصرّف وكأنها لا تعلم أنّ شعباً بأكمله قد تم إبادته ، ذلك لأنه لم يكن للسريان صوت يدافع عنهم أو وزن في المحافل الدولية في القرن العشرين والأهمّ هو أن لا مكاسب سياسية للقوى العظمى في هذه القضية ، حيث إنها كانت تحاول إرضاء تركيا لتفادي دخولها في الحرب إلى جانب ألمانيا ، لهذا كان السريان ضحايا عملية إعدام ممنهجة.
لا بد للعالم باسره ان يعترف ، فالاعتراف فضيلة ، كما انه الباب الوحيد الى الغفران والمعبر الى السلام ، على امل أن يعترف البرلمان السوري بمجازر سيفو ضد السريان والآشوريين أيضاً ، فصراع الوجود والهوية مع العثماني ما يزال مستمراً حتى انتصار حق هذه البلاد وهذا المشرق العظيم.
أبرز الأخبار