مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

صناعة التاريخ بين الأسطورة والخيال

20-01-2020

آفــاق

الدكتورة ميرنا داوود

أستاذة جامعية وكاتبة

عندما نطق الكاتب الأميركي ومؤلف قصص الخيال والإثارة دان براون مقولته المشهورة بأن المنتصر هو من يكتب التاريخ ، ربما لم يكن يعلم أن القراء سيتداولونها بطريقة يجعلها أقرب للحقيقة العلمية ، من دون وجه حق ومن مفارقات الزمن أن يظل الوهم شائعاً وتبقى الأسطورة مطلوبة ، في حين تظل الحقيقة قاسية ومنبوذة وتبقى الموضوعية كائناً بارداً لا يطيقه الناس في أغلب الأحيان.

لقد حَفل تاريخ البشر بقصص مغلّفة برداء من الوهم وأقاصيص أقرب إلى الأساطير التي غابت بين طياتها شمس الحقيقة ، وكاد يتبدد في طياتها منطق الصدق وحكْم الموضوعية إلى حد بعيد ، وكم حاول الكثير من المفكرين والباحثين والمثقفين كشف الستار عما شاب السرد التاريخي عبر العصور من التباس ولم يفلحوا في معظمها ، فالناس غالباً ما تردد وتتبنى ما يروق لها ، وصناعة الوهم وترويجه هو المطلوب. 

إن كثيراً من تحولات التاريخ لم تحدث على النحو الذي تم تلقينه لنا كطلاب منذ كنا على مقاعد الدراسة ، فكم كان المؤرخون على مرّ الأزمان يراوحون في رواياتهم بين الحقائق والأوهام ، فقراءة التاريخ تبدو من النوع الاسترجاعي الذي يحاول أن يستعيد الماضي ذهنياً او فكريّاً فقط ، ولذلك فالتاريخ في معظمه عبارة عن خيال ورغبات وما يصدر عنه هو عبارة عن تصورات لا يمكن لأحد إثباتها ، ومن هذا المنطلق فالتاريخ قد يكون في مجمله مجرد فرضيّات تخضع لأهواء الكاتب وفيها مغالطة معرفيّة خطيرة ألا وهي قياس الغائب على الشاهد. 

بالإضافة الى ذلك فالمؤرخ لا يستطيع أن يبلغ روايته إلاّ من خلال تركيب وإنشاء الواقعة التاريخيّة ، وهنا يتدخل الخيال والحدس والتفكير التجريدي الخالي من التفاصيل ، رغم أنه يروي الوقائع وهنا تحدث المُفارقة ، فالوقائع التي يجب أن تكون تفصيلية تخلو من الأخيرة لصالح المجرّدات والنتيجة تعاكس المطلوب ، مما يجعل علم التاريخ مجرد روايات بشر لا روايات التاريخ الفعليّ .

وكما هو معروف فالتاريخ يعتمد على الوثيقة والمصدر، وكلاهما في معظم الأحيان لا يمكن التأكد من صحتهما ولا من مصداقيتهما ، وخصوصاً المصدر الذي قد لا يكون أكثر من خيال ذهني لمصدر لاحق كي يؤكد روايته فيقول على لسان فلان الذي واكب الحدث وسمعت منه ، فقد لا يكون فلان هذا موجوداً أصلاً والراوي الذي منه تتأتى الوثيقة قد يكون كذلك متوهماً متخيّلاً ، لذلك فلا المصدر مؤكد ولا الوثيقة مثبتة وعندها تسقط روايات شهود العيان التي قد تفتقد للمصداقية في مجملها ، وحتماً فهي تفتقد للدقّة لأنها ترى الحدث من زاويتها ويختلط ما رأته بانفعالاتها وبموقفها وبتصوراتها المسبقة وبأيديولوجيتها وبدوافعها الشخصية.

‏وما يجهله البعض أن علم التاريخ يعتمدعلى الفهم وليس على التفسير وهنا يحاول البعض عبر المنهج الاستقرائي التركيبي أن يجد معنى للتاريخ وفي هذا إضافة خطيرة على التاريخ وهذا تزوير إضافي ، وأخطر ما يقدّمه هؤلاء هو حتمية التاريخ.

وخلاصة القول فإن التاريخ الحقيقي الذي يمكن الوثوق به يحتاج إلى وثائق تحمل تواريخ صحيحة حتى يمكن مقارنتها واستخلاص الحقيقة التاريخية الفعلية منها ، لكن في الواقع ومن بين كل ما هو متاح اليوم بين أيدي الباحثين والمؤرخين ، لا نجد إلا النزر اليسير من هذه الوثائق الموثوق بها والتي يمكن الاعتماد عليها لكتابة التاريخ الفعلي للحضارات البشرية.

نحن لا نقدر أن نسبر أغوار المستقبل إلا عبر تخمينات وحسابات يمكن أن يتحقق بعضها لكننا لا نستطيع الجزم بها قطعياً ، فالعالم الإنساني المتغير المعطيات إلى جانب الظروف البيئية الغير متوقعة على المدى البعيد يمكن أن تغير النتائج الأستشرافية المتوقعة الحصول بشكل شبه كلي .

ونفس الشيء ينطبق على الماضي ، فالتاريخ الفعلي الموثوق به هو اقصر بكثير مما نعتقد إذ من الممكن تتبع الأحداث التي وقعت في الماضي إلى حد معين لا يمكن أن يتجاوز سقفاً معين من السنوات التي تعد على أصابع اليد الواحدة. فإذا اعتبرنا أن الثورة الفرنسية من  الأحداث التاريخية التي يمكن الوثوق بها ، لا يمكن بأي حال الجزم بأننا نمتلك كل المعلومات الدقيقة التي تعود الى 1700 مثلا والادعاء بمعرفة حقيقية لما حدث خلالها ، ثم ما هو التاريخ الشبه مؤكد من بين كل الأحداث السابقة لها بقرن او قرنين؟

هل حقا حدثت حرب الثلاثين سنة وهي سلسلة صراعات دامية مزقت أوروبا بين عامي 1618 و1648 م وهل حرب المائة سنة حرب حقيقية والتي تمثلت بصراع طويل المدى بين فرنسا وإنجلترا دام لمدة 116 سنةَ  تخللته فترات طويلة مِنْ السلامِ قَبْلَ أَنْ تنتهي بطردِ الإنجليزِ مِنْ فرنسا؟

وقبل ذلك بزمن طويل ، إذا أردنا أن نتناول الحروب الفارسية ضد أثينا وحرب روما ضد قرطاج ، أليست قصصاً أدبية جميلة تدغدغ المشاعر ولكن هل يمكن اعتبارها تاريخاً؟

 

أعتقد ان الجزم بأنها تاريخ هو مخالفة للمنطق ، إذ أن الثنائيات في التاريخ الرسمي تضيع يقيننا ، سواء كانت على مستوى الأشخاص التي تحمل أسماء متقاربة وقامت بأحداث متشابهة أو على مستوى الأحداث التي تتطابق أحياناً مع المناطق الجغرافية ، لأنها بكل بساطة يمكن أن تكون حدث واحد تكرر ذكره بصيغ مختلفة نظراً لإختلاف لغة وثقافة من نقله.

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما