29-12-2019
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
ولعل مسيحيو سوريا و لبنان هم آخر ركيزة متينة في هذا الشرق المفتت أو من بقي منهم في هذه الأرض. فبعد تقلص الانتشار المسيحي في الشرق بفعل الحروب والأزمات في السنوات العشرين الأخيرة ، تناقص مسيحيو فلسطين بشكل كبير إثر تضييق إسرائيلي عليهم ودفعهم للهجرة وتهويد الدولة ، كما أنه تم تفريغ مناطق عن بكرة أبيها في سوريا من المسيحيين، وخصوصاً في حلب ووادي النصارى في حمص وفي شمال شرق سوريا وخصوصاً الشمال المشتعل اليوم ، بين فكي كماشة العثماني من جهة وقسد من جهة ثانية ، وقد سبقهم مسيحيو العراق إثر الحرب التي اندلعت مع سقوط العراق واستكملتها داعش في المرحلة الثانية في الموصل وغيرها من المناطق في سهل نينوى الذي يضم شريحة كبيرة من السريان والأشوريين الذين لم يبق منهم الا قلة قليلة.
وفي المحصّلة ونتيجة لكل ما ذكرته ، يجد المسيحيون أنفسهم في المشرق محاصرين بالهواجس واختلال الميزان الديموغرافي ، ولم يبق مؤثراً فيهم إلا مسيحيو لبنان ومن تبقى من مسيحيي سوريا الذين يحافظون على وجودهم قدر الامكان ، ويحاولون تكريس بعداً اجتماعياً متنوراً ومتنوعاً في المشرق، ويعززون حضوراً ثقافياً بالغ التأثير، أهمه توجيه رسالة للعالم أجمع حول ثقافة التنوع والعيش المشترك.
وبات هذا النموذج المشرقي التعددي المتواجد على بقعة جغرافية محددة أكثر تأثيراً بعد قرار الكنيست الإسرائيلي عام 2018 إعلان يهودية الدولة، وهو ما جعل من فرضية الحفاظ على المسيحيين والتنوع في المشرق حاجة ملحة ، ووضع لبنان وسوريا في مربع هام كونهما آخر المعاقل للتعددية في هذه المنطقة ، بالنظر إلى أن لا طابع دينياً أو طائفياً للبلاد بل منظومة من الموزاييك المتجانس. ولطالما شكل هذا المشرق حاضنة للثقافات والتعددية والتنوع ، وهو مثال يعزز السلام ويثبت القدرة على التعايش في مقابل الأحادية التي تنشئ مكاناً للتطرف والإرهاب. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبقوة هو هل ستبقى هذه البقعة المستنيرة عصيّة على الإهتزاز في ظل هذه المناكفات والأزمات والحروب التي عصفت بها وما زالت تهددها وتكشرعن أنيابها؟
بطبيعة الحال فان هذه الوقائع تحول دونها تحديات كثيرة ، أبرزها الاختلال في التوازن الديموغرافي الذي فرضته موجات الهجرة المستمرة منذ منتصف القرن الماضي ، وازدياد أعداد الهجرة والتشتت ، ويبدو بأنها مهددة بالزيادة في ظل ما تخلقه الفوضى والحروب ، فما يسمى بالثورات لم تكن من باب المصادفة أنها رفعت شعارات متشابهة تحمل وتخفي في باطنها الأسوأ للمسيحيين ، فالتهجير القسري بدافع الارهاب والعنف الطائفي وكذلك الأختلال في البنية السكانية واعادة التوزيع السكاني كلها أسلحة لا تخفى الا على السذج الذين هم ادوات لفوضى مدمرة.
ولعل الخطرالأكبر الذي بات يهدد المسيحيين اليوم هو القلق المشروع على وجودِهم لأن البيئةَ التي يعيشون فيها والتي ساهموا في نهضتها وتمدّنها تغيّرت وانحرفت نحو الأحادية وعدم الاعتراف بالآخر. ولا ننسى بأن التطرف المنتشر في العالمين العربي والإسلامي من خلال الأنظمة التكفيرية والدول التي تساند الارهاب، لا تشكل خطرًا على المسيحيين فقط ، بل على المسلمين المنفتحين والحضاريين الذين يطمحون الى العيش في بيئة عصرية متوازنة ، على الرغم من أن الكثيرين ينظرون إلى هذه المخاوف على أنها غير مبررة وتستخدم فقط في الصراعات السياسية بين جهات مختلفة بغرض التعبئة الأيديولوجية ، إلا أن التغييرات التي طرأت على المسيحيين في الشرق خلال مئة عام ثبتت بعض الهواجس ، ومن ضمنها هواجس ثقافية مرتبطة بذهنية الحماية التي كانت قائمة في فترة حكم المتصرفية في النصف الثاني من القرن التاسع عشرعلى سبيل المثال ، وكذلك العثمنة والذمية وتدور هذه الذهنية حول فكرة البحث عن تحالف إقليمي أو داخلي لتوفير الحماية.
وبنطرة خاطفة نجد أن تراجعاً ملحوظاً في مستوى الحضارة في مشرقنا وضعف ملحوظ لمفهوم الدولة قد حدث. لقد سقطت الهويات القومية كفكر سياسي أمام التطرف الإسلامي الراديكالي الغريب عن تقاليدنا. أين المشرق اليوم من الحضارة التي كان المسيحيون روادها ضد العثمنة ؟ لقد أساءت هذه التحولات السلبية إلى منطقتنا وأساءت الى الوجود المسيحي برمته. ومما لا شك فيه بأن العودة إلى الثقافة والرقيّ والمدنية كفيلة بإعادة النبض إلى العلاقات المسيحية ـ الإسلامية في الشرق ولكن للأسف هناك من يعمل جاهداً لاجهاض هذا المشروع ، وما نشهده اليوم لهو دليل على ذلك. إن أي انسان متحضّر بغض النظر عن دينه يشعر بعدم الانتماء اليوم في ظل هذا المناخ المريض ويبقى السؤال معلقاً الى أين نحن سائرون ؟ أهي العبثية ليس إلا ، نتخبط بها أم مشروع أكبر من الجميع يتربص بنا؟
أبرز الأخبار