20-12-2019
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
لم تكن المافيا "الإيطالية-الأمريكية" في ولاية نيويورك عصابة واحدة في عالم الجريمة ، بل كانت مكونة من خمس عائلات رئيسية متحاربة فيما بينها ، ومع الوقت توحدت هذه العائلات لتشكل واحدة من أكبر عصابات المافيا في العالم.
كان هناك رجل واحد لولاه لما تمكنت عصابات المافيا من الوصول إلى هذا المستوى من التأثير الكبير وهو تشارلز لوكي لوتشيانو الذي أصبح أول زعيم لعائلة جينوفيزي الإجرامية القوية وأصبح معروفاً بأنه الأب الروحي للجريمة المنظمة الحديثة في الولايات المتحدة وساعد في تشكيل هيئة إدارة المافيا الأمريكية والتي سميت Commission والمستمرة في فرض سيطرتها في عالم الجريمة الى اليوم.
وُلد لوكي لوتشيانو باسم سالفاتوري لوكانيا في بلدية ليركارا فريدي في جزيرة صقلية بإيطاليا في عام 1897 ومن ثم هاجر لوكي وعائلته وهو في سن العاشرة من صقلية إلى الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً في الجزء الشرقي الأدنى من مدينة نيويورك المليء بالجرائم.
وعاشت عائلة لوكانيا مثلها مثل العديد من المهاجرين في ذلك الوقت في منزل مكتظ ، ووجد لوكانيو نفسه في هذه السن الصغيرة في عالم الجريمة، ومن ثم تورط في عمليات سطو وسرقة وابتزاز وهو في سن الرابعة عشرة
ولم يكن بالأمر المفاجئ أن يجلب الفتى معه بندقية للمرة الأولى إلى المنزل وهو في سن الرابعة عشرة وسرعان ما أصبح نشالاً ماهراً ومن ثم قاتلاً محترفاً وزعيم لأكبر عصابة منظمة في التاريخ.
تلقت الحكومة الايطالية ضربة موجعة، في 23 أيار من عام 1992 باغتيال أحد رجالها وهو القاضي جيوفاني فالكوني، الذي تولى على عاتقه مسؤولية محاربة عصابات المافيا لفترة طويلة قبل أن تنال منه إحدى أكبر عصابات المافيا الإيطالية ، وهي مافيا صقلية المعروفة باسم كوزا نوسترا بتفجير سيارته بما يقارب الـ1000 كغ من المواد المتفجرة ، مما أسفر عن مقتله مع زوجته وثلاثة من حراسه ، في ما عرف بمذبحة "كاباتشي" .
غالباً ما يكون الحر الشجاع وراعي الحق هدفاً لمن اعتادوا أن يستعبدوا الناس ، وفالكوني لم يكتفِ بقول لا بأعلى الصوت ، ولكنه قضى على المافيا ليس فقط في موطنه ايطاليا، بل ساهم في القضاء عليها وعلى شبكتها الاخطبوطية الممتدة عبر المحيطات مما ادى الى محاكمتهم حتى في الولايات المتحدة وتسمى هذه الشبكة بشبكة البيتزا التي تضمنت تجارة الهيرويين والكوكايين بين (كوزا نوسترا) في صقلية وأفرعها في الولايات المتحدة. طبعا سميت بشبكة البيتزا لأن المافيات هناك كانت تقدم مطاعم البيتزا كتمويه وفي الواقع كانت هذه «المطاعم» خزانات واسعة للمخدرات.
عاش فالكوني معظم حياته بطريقة صعبة للغاية فقد كان تحت الحراسة الشديدة وكان مكتبه في سرداب محصن تحت الأرض. جميع تحركاته كانت مخططة ومدروسة مسبقاً من حراسه وحياته كانت دائماُ في حالة خطر لدرجة انه اتفق ومنذ البداية مع زوجته بعدم الإنجاب لأنه كان يعلم نهايته ولم يعتقد بأن العالم بحاجة الى المزيد من اليتامى ، وحتى حراسه الشخصيون صرحوا للإعلام بأنهم مؤمنون بقضيته جدا الى الدرجة التي جعلتهم يتأهبون للموت وبأي لحظة معه. ولكن لم كل هذه التضحيات؟ ومن اجل من؟ وهل فعلا كان كل هذا يستحق حياته وجهده؟ هل يمكن لفرد واحد محاربة هذا الكم من العقليات المشوشة والتي ترسخ فيها السمع والطاعة للمافيا فقط لانهم يهددون بالقتل والسلاح؟
كانت حقبة الثمانينات في ايطاليا وخصيصا في صقلية تسمى بعصر جثث النخبة وهذه الجثث تنتمي لشخصيات سياسية وقانونية وعسكرية مهمة ساهمت في انهاء الفساد ولا سيما في الوقوف ضد المافيا وفي عام 1983، تم اغتيال القاضي روكو شينيشي وهو رئيس فالكوني في العمل وفي عام 1982 تم اغتيال الجنرال الإيطالي كارلو البيرتو دالا كييسا ، وفي السنة ذاتها أيضاً اغتيل القائد الشيوعي بيو لا توري والذي أسس قانوناً مهما في الدستور الإيطالي والذي يجرم المافيا ويحق للدولة بموجبه بأن تستولي على ممتلكات وأراضي المافيا.
كان بييرسانتي ماتاريلا وهو شقيق رئيس ايطاليا سيرجيو ماتاريلا أيضا هدفاً مهماً للمافيا ، حيث بدأت حملة ارهابية لتخيف بها الدولة الإيطالية ولتحرص على رضوخ الحكومة لرغباتها ولكن هنا اتى دور فالكوني الحقيقي ، فبعد اغتيال صديقه ورئيسه وزميله شينيشي ، بدأ فالكوني حرباً حقيقية ليتصدى للمافيا التي اعتادت ان تنال رغباتها عبر التخويف والعنف والقتل والانتقام وسفك الدماء.
ويبدو من الصعوبة بمكان دراسة مسألة تغلغل المافيا الإيطالية داخل المجتمع الإيطالي من زوايا مختلفة في ظل سوأل جوهري: كيف لعصابات مسلحة أن تبقى في دولة طيلة عقود طويلة؟ فهي بلا شك تحتاج دائما إلى خبراء في مجالات متباينة بين محاسبين وسماسرة عقارات وعاملين بالأجهزة المصرفية ومحامين ورجال دولة بمن فيهم القضاة. وفي ظل تجنيد متعاونين من مختلف التخصصات، لم تعد المافيا الإيطالية في العصر الحالي مقتصرة على ممارسة أنشطة العصابات بشكلها التقليدي، مثل جمع الإتاوات والاتجار في المخدرات وغسيل الأموال ، لكن تركيزها أصبح منصباً في الأساس على علاقاتها الخارجية التي توفر لها أدواراً مهمة مثل الحماية والتواطؤ، لذا يمكننا القول إن المافيا نجحت عبر السنين في تطوير نظام سلطة خاص بها
وفي ظل وجود بعض الفاسدين من رجال الدولة المتعاونين مع عصابات المافيا ، فهذه المنظمات الإجرامية لا تكتفي فقط بتجنيد محققي الشرطة، فتنفيذ خططهم يحتاج غطاء أكبر من كبار الساسة ، وهو يعتبرأحد أسرار استمرار حضور المافيا داخل إيطاليا وخارجها على مدار عقود طويلة، فوجودها يمثل حماية مصالح الكثير من الشخصيات الهامة.
وبطبيعة الحال ففي العقود الماضية كانت المافيا تلجأ إلى التقرب من رجال السياسة الذين يمكن أن يحققوا مصالحها، لكن نشاطها في هذا الصدد انتقل في السنوات الأخيرة إلى مستوى جديد، وأصبحت المافيا هي من تزج برجالها في المؤسسات السياسية المختلفة لتسهيل أهدافها الإجرامية.
ولم تكن خطط المافيا الايطالية لاختراق الجهاز الإداري للدولة سوى مقدمة للسيطرة على قطاعات من الاقتصاد، فعلى سبيل المثال نجحت المافيا في السيطرة بشكل كبير على قطاع البناء والإنشاءات ، ثم انتقلت إلى قطاعات أكثر تنوعاً مثل الصحة والسياحة والوكالات التجارية والتخلص من النفايات ، هذا إلى جانب أنشطتها التقليدية مثل المقامرة والكازينوهات وتجارة الأسلحة.
ولعل أحد أبرز أسرار قوة واستمرارية عصابات المافيا الإيطالية ، هو أنها تتمتع بمرونة كبيرة في التكيف مع الظروف المحيطة بها ، ونجح زعماؤها في تحقيق أقصى استفادة من ظروف العصر، لذلك فإن أنشطتهم شهدت عدة تحولات في شكلها ومضمونها لتناسب مستجدات الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة بهم.
وفي هذا السياق لا بد لي أن اذكر بأن المافيا هي أول جهة تتلقى المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلى الأراضي الإيطالية ، فالصفقات التي تبرمها مع مهربي البشر والرقيق الأبيض تعد مصدراً عظيماً للربح المادي الذي ينعش اقتصاد المافيا، ويحقق ما يبحث عنه المهاجر غير الشرعي ، وتقدم المافيا للمهاجرين عملاً وراتباً ومأوى.
وفي المقابل تجبرهم على العمل لمدة تصل إلى 12 ساعة، في أنشطة مشروعة كجمع محاصيل البرتقال وقطاف العنب ، أو غير مشروعة مثل نقل شحنات المخدرات بين المدن الإيطالية. ومع ما تمتلكه المافيا من شبكة علاقات مكنتها من توسيع حجم اقتصادها ، أصبحت تدير عملية تقليد السلع بكامل مراحلها بداية من الإنتاج ومروراً بالنقل وحتى التوزيع على المستهلك، بالتعاون مع مافيات صينية احترفت هذا النشاط.
ومما لا شك فيه أن الجريمة تغيرت في السنوات الأخيرة ومعها طبيعة التهديدات. فنحن اليوم أمام مافيا غنية تشتري الذمم، وتسعى قبل كل شيء للضغط على الشهود وشراء صمتهم أو تعديل شهاداتهم هذا ما صرح به أحد القضاة الذين تولوا هذا الملف الشائك.ولا تزال الحرب الشعواء مستمرة ضد القساد والجريمة باشكالها المتعددة.
أبرز الأخبار