في الوقت الذي أنطلقت فيه شرارة الحرب العالمية الثانية في أوروبا ، كان المجتمع الامريكي يقاتل من أجل اللحاق بالانجازات الألمانية في تطوير الطاقة النووية ، وفي أوئل الاربعينات من القرن الماضي ، وافقت الحكومة الامريكية على البدء في برنامج سري للغاية للتجارب النووية وأطلقت على البرنامج اسم "مشروع مانهاتن".أسهمت القنبلتان الذريتان في إنهاء الحرب العالمية الثانية لكن بغض النظر عن السياسة وتعقيداتها وما إذا كانت توفرت طرق وسيناريوهات أخرى قد يؤديان إلى نفس النتيجة أي إنهاء الحرب يبقى سؤال مهم :هل للعلم حدود أخلاقية؟
ألم يحدث أن أشمئز أوبنهايمر بينما كان يحسب كمية الكتلة الحرجة من اليورانيوم ، وإمكانية تعرض مادة البلوتونيوم للانشطار مثلًا؟ نعم لقد فعل كما يُروى عنه بأنه شعر بالغثيان مجرد أنه تخيل ماذا يمكن أن تفعله معادلة رياضية واحدة مكتوبه على الورق ومدى الآثار التي قد تنجم عنها ، فإذا كانت القنبلة الذرية انفجرت مرة في ولاية نيومكسيكو، كاختبار مبدئي مصغر ومرّة في هيروشيما ومرّة ثالثة في ناغازاكي ، فأنها قد انفجرت قبل كل ذلك في عقل صاحبها ومبدعها.
إن أي ممارسة علمية في ذاتها لا تحمل بين طياتها أي مشاعر ولا تثير أي إشكالات أخلاقية ، بل هي ممارسة نقية محايدة ومجردة تمامًا من أي اعتبارات قد تكتنفها الأخلاق. أي إن الحقيقة المعرفية منفصلة عن القيمة، وهو مبدأ معروف في الفلسفة وهو ما يسمى بمشكلة الكائن/ الواجب ، ومع اختلاف الفلاسفة بشأن هذه المعضلة ، فإن الرأي الأكثر شيوعاً منذ ديفيد هيوم هو أن معرفة ما هو كائن لا يترتب عليها معرفة ما هو واجب ، أي إن المعرفة النظرية عن العالم لا تؤدي إلى إنتاج معرفة أخلاقية بشأن ما يجب عمله.
تبدأ الأخلاق، أي الممارسة العملية، عندما تتجسد الممارسة العلمية في شكل تطبيق، سواء كان هذا التطبيق على أرض الواقع، أو في خيال أوبنهايمر او أينشتاين. ان المعضلة الأخلاقية الخاصة بالقنبلة الذرية ، ومشروع مانهاتن بوجه عام يتلخص في السؤال حول الالتزامات الأخلاقية التي يلتزم بها العلماء في معاملهم وخارجها وهل ينبغي على الساسة والعسكريين الإستفادة من العلم وتطويعه بغرض فض النزاعات والحروب في ما يُعرف بأبحاث مشروعات العلوم العسكرية؟
لقد كان هدف الولايات المتحدة من مشروع مانهاتن هو تطوير أول قنبلة نووية في العالم ، وبالفعل قاموا ببناء منشأة في لوس الاموس في ولاية نيومكسيكو وفي تموز من عام 1945 نجح علماء مشروع مانهاتن من تفجير أول قنبلة ذرية في موقع اختبار في بلدة الاموغوردو القريبة من مكان مشروع مانهاتن.
كان من أبرز من ساهم في انتاج القنبلة الذرية عدد من العلماء منهم فيرمي الإيطالي وزيلارد المجري وأينشتاين النمساوي وأوبنهايمر الألماني. لقد هرب أينشتاين من النازيين وفيرمي من الفاشيين وهرب البقية من جحيم الحرب العالمية الثانية في أوروبا.
في تلك الفترة كانت ألمانيا تخوض سباقاً محموماً مع بريطانيا وروسيا وأميركا لشطر الذرة وإنتاج أول قنبلة ذرية. وخلال الحرب سمع فيرمي (الذي قدم للتو من إيطاليا) بأن العلماء الألمان كرروا تجاربه على اليورانيوم واقتربوا من شطر الـذرة. وهكذا اتفق مع زميله زيلارد على كتابة رسالة للرئيس الأميركي روزفلت يحذرانه فيها من امكانية نجاح هتلر في امتلاك قنبلة خارقة يمكنها نسف مدن كاملة. ولكي يمنحا رسالتهما قوة ومصداقية عرضا على أينشتاين التوقيع عليها أيضاً. ولكن أينشتاين لم يرحب فقط بالفكرة بــل وأضاف فقرة أرعبت روزفلت يقول فيها: "وقد وصل لعلمي أن هتلر منع تصدير اليورانيوم من ألمانيا وأمر باستيراد كافة الكميات المستخرجة من أفريقيا لهذا الغرض."
وحين قرأ روزفلت الرسالة (المرسلة من أعظم ثلاثة فيزيائيين في العالم) أمر فوراً بإنشاء مشروع سري لأبحاث الذرة عرف بمشروع مانهاتن. وخلال عامين تم تحديد كتلة التفجير الحرجة (من عنصر اليورانيوم الذي اكتشفه فيرمي) واقتربت أميركا من الفوز بسباق الذرة على الرغم من تجسس السوفييت الدائم على المشروع.
وعندما هاجم اليابانيون ميناء بيرل هاربر أصبحت أميركا منقسمة بين جبهتين: الجبهة الأوروبية بمواجهة هتلر، وجبهة آسيا بمواجهة اليابان. وأدركت أن التغلب على اليابان يتطلب سلاحاً نوعياً جديداً فضغطت على العلماء للانتهاء من صنع القنبلة الذرية ولضيق الوقت رفض الرئيس الأميركي تجربة القنبلة وأمر برميها مباشرة فوق رؤوس اليابانيين (الذين كانوا يفضلون الانتحار على التخلي عن مواقعهم في آسيا).
غير أن اليابانيين لم يستسلموا حتى بعد تدمير هيروشيما بأول قنبلة ذرية (في 6 أب 1945) الأمر الذي استدعى قذف قنبله نووية اخرى بعد ثلاثة أيام على مدينة ناغازاكي والتهديد بقصف طوكيو في حال رفض الامبراطور الاستسلام.
وباستسلام اليابان تأكد نجاح مشروع مانهاتن حيث كان أغلى مشروع علمي في التاريخ وتأكد نجاح الإنسان في استخراج أول طاقة لا تمت للشمس بصلة. غير أن الجميع أصيب بالصدمة من قوة التفجير ونـدم علماء المشروع على كتابة رسالتهم الأولى إلى روزفـلت ، حتى أوبنهايمر اليهودي تراجع عن دعوته لقصف ألمانيا بالقنابل الذرية.
غير أن روسيا نجحت بعد عشرين يوماً فقط من قصف ناغازاكي في تفجير قنبلتها الذرية الأولى ، فقررت أميركا المضي قدماً في إنتاج أول قنبلة هيدروجينية. وحين علم بذلك علماء مانهاتن كتبوا رسالة جديدة إلى الرئيس ترومان يحذرونه فيها من خطورة إنتاج قنبلة هيدروجينية تفوق القنبلة الذرية بآلاف المرات.
ولكن هذه المرة كان السيف قد سبق العذل فـلم يلتفت لـنصيحتهم أحـد. اما فيما يخص علماء مانهاتن، فلقد كان لديهم التزامات أخلاقية خرقوها . ان هدف العلم جعل العالم مكانًا أفضل وتحسين احوال حياة الناس ولكن ما حدث في هيروشيما وناغازاكي أن ما يقرب من 200 ألف شخص من المدنيين قُتِلوا في لحظات ، أضف الى ذلك التشوهات الخلقية التي رافقت أجيال وأجيال ممن ولدوا بعد الحرب بسنوات. وفي عام 1955 وقبل سنتين من وفاته كتب اينشتاين الحائز على جائزة نوبل للفيزياء الى الفيلسوف الياباني شينوهارا يقول له "لطالما شجبت اللجوء الى القنبلة الذرية ضد اليابان لكنه لم يسعني القيام بشيء لمنع ذلك القرار المشؤوم !".
وان كان أينشتاين قد عارض على الدوام إستخدام القنبلة الذرية التي لم يشارك في صنعها الا ان هذه الرسالة تثبت أنه كان يسعى رغم ذلك لتبرير موقفه بعد ان سهلت أعماله ابتداء من 1905 في تطوير الصناعة الذرية وعندما يخرج المارد من القمقم فمن الصعوبة بمكان اعادته.
وكتب اينشتاين بخط يده على ظهر رسالة مطبوعة على الآلة الكاتبة "لم أزعم يوما أنني من دعاة السلام بالمطلق بل انني مؤمن بالسلام. وهذا يعني ان ثمة ظروفاً معينة تستوجب بنظري استخدام القوة". وتابع مدافعا عن موقفه "اعني بهذه الظروف المعينة عندما اكون بمواجهة عدو هدفه تدميري وتدمير شعبي. لذلك كان اللجوء الى القوة ضد المانيا النازية مبررا وضروريا بنظري."
وفي نفس الوقت كان يعاني من نزاع داخلي ويسعى للدفاع عن نفسه حيث كتب "يبدو لي ان العزاء الوحيد في تطوير قنابل ذرية هو أن قوتها الرادعة ستغلب مع الوقت ولعل ذلك سيؤدي في نهاية المطاف الى تعزيز الامن."