31-08-2019
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
للأسف الشديد فان بلدان العالم العربي عموماً وحتى مشرقنا الذي يتغنى بالعلمانية والتنوع الديني لا يمكن له كما يبدو الانفكاك عن الدين باعتباره القوة السياسية المهيمنة. ويبقى الإسلام السياسي (عند شريحة كبيرة من الناس) بطاقاته السياسية العارمة عامل القوة المهيمن في المنطقة وهذا واقع حتى بين الطبقات التي تدعي الثقافة والأنفتاح.
> وهنا أتطرق الى موضوع الغرب والدور الذي لعبه على مدى سنوات بل عقود والذي يرتكب خطأً حين يركِّز جلَّ اهتمامه على الدين ليصرف اهتمام الناس وشعوبنا الى لب المعضلات الأساسية ولطالما لعب بهذه الورقة لتأجيج الصراعات وحسم الأمور لصالحه في نهاية الأمر، لأن الأحداث في منطقتنا مرتبطة في الواقع بمسائل مختلفة تمامًا وهي: التوزيع العادل للسلطة والموارد، ودولة القانون الفعلية، والمشاركة الديمقراطية. لكنه لا يرى أو لا يريد أن يرى أيضا أن اللغة المناسبة والأليات للتعبير عن هذه المطالب لم توجد بعد على أرض الواقع، أو بتعبير أفضل: لمْ تستطع هذه اللغة حتى الآن فرض نفسها إزاء الخطاب الديني السائد.
> على مدى ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن كانت كل حركات المعارضة التي حاولت بعض الجهات تسويقها في العالم العربي تابعة للمعسكر الديني وهذه حقيقة. وقد ترك هذا آثارًا لا يمكن إزالتها بين ليلة وضحاها.
> ولعل سبب هيمنة الدين تكمُن في الدعم المتعمد للدين في العالم العربي والشرق عموماُ وفي المقام الأول من قِبَلِ بعض الدول العربية نفسها، التي تمتلك مفاتيح النفط و تملك كذلك وسائل مالية وعقائدية كبيرة، وهي تصدِّر تفسيرًا أصوليًا للإسلام ونجحت في تقديمه ضمن هذا الاطار. وهو تفسير عمل باستمرار وبإصرار على إقصاء الخطاب العلماني المعتدل وليس فقط الخطاب اليساري.
> وبالعودة الى الوراء والى سنوات خلت نجد بأنَّ الطروحات الماركسية والخطابات الليبرالية /العلمانية كانت شائعة جدًا في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية لكن، منذ أواخر الستينيات وبعد صدمة هزيمة حرب الأيام الستة عام 1967 والطفرة النفطية التي بدأت بعد ذلك بفترة قصيرة، قلّما تمكنت هذه الطروحات من إثبات نفسها.
> ومنذ ذلك الحين أيضا، قلما كان هنالك نماذج ملهمة في الغرب. فالغرب يميل منذ فترة غير قصيرة إلى نسيان أكثر تقاليده نُبلاً، ألا وهو: التنوير. فمن قبل كان الغرب يهتم تمام الاهتمام بكيفية توزيع السلطة والثروة، تحت شعار: "حرية، مساواة، إخاء".أما اليوم فلقد تغيرت الشعارات والدوافع.
> التمعُّن بمختلف آليات التوزيع، والتساؤل عن الأطراف المستفيدة من كل منها، كانا قبل فترة ليست طويلة يشكلان في الغرب جوهر كل دراسة سياسية، وبطبيعة الحال فالأمور لم تعُد كذلك في الوقت الراهن، ولعلنا نجد بأن التركيز الآن يجري على القضايا الثقافية بدلًا من الاقتصادية، مما يعتبر خطأً فادحًا ينبثق من أيديولوجية تنسجم بشكل خفي مع الأصولية الدينية ألا وهي "عقيدة التعددية الثقافية"التي تحدث عنها الكثير من المتنورين المشرقيين.
> فما هي عقيدة التعددية الثقافية؟ وما الذي تعنيه في مشرقنا؟ إنها عقيدة تدفع إلى منح جميع المكونات الأثنية والدينية بمعناها المطلق قيمةً مطلقةً غير قابلةٍ للنقاش. فسواء كانت مجموعاتٌ دينية أو أقلياتٌ عرقية أو جماعاتٌ ثقافية، لا توجد اليوم مجموعة إلا وتطالب بالاعتراف المطلق وغير المحدود بخصائصها ومعتقداتها ومُثُلها العليا، وبالتالي تضعها فوق اعتبار المجتمع ككل وفوق مصلحة الوطن، غير آبهة بمخاطر ذلك على مفهوم الوطن ومصلحته.
> وبنظرة سريعة الى الغرب أيضاً نرى بأن الكثير من الصراعات داخل المجتمعات الغربية لا تتمحور حول قضايا السياسة كما ذكرت انفاً، بل حول قضايا تتعلق بالهوية، التي أعتقد بأنها غير قابلة للتفاوض، وبالتالي لا يمكن حلها وهي ملفات شائكة معقدة أصبحنا نسمع بها أبان الحرب السورية وما خلفته من مشاكل لا حل لها.
> وفي ظل عقيدة التعددية الثقافية جرى أيضًا في الغرب تأويل وحسم نزاعات سياسية واقتصادية في الصميم على أنها ثقافية. هذه الظاهرة المنتشرة على نطاق واسع اليوم تدفع بدورها إلى تفسير الصراعات الحالية في الشرق الأوسط على أنها حصرًا ثقافية، أو على نحو أسوأ، على اعتبارها دينية مذهبية.
> يتهم البعض العلمانية العربية عموماً والمشرقية خصوصاً بأنها جلبت لنفسها السمعة السيئة لأنها لم تسطع فرض نفسها على الأرض بصورة صحيحة فكانت اما متطرفة بطروحاتها أو اقصائية مما جعلها عرضة للانتقادات لأنها لم تعرف عن نفسها بطريقة صحيحة وقد يكون هذا صحيح بعض الشيء مع الأخذ بعين الأعتبار عدم وجود ارضية حاضنة .
> إن حقيقة تعامل الدول الغربية مع ملفات شائكة في منطقتنا وبلداننا قد سبب المزيد من الضرر لسمعة هذه القيم الليبرالية أو العلمانية. والسياسة الواقعية للدول الغربية، التي تود أنْ تظهر بمظهر المُعلِّم الأخلاقي، جعلت من الصعوبة بمكان حتى على مؤيديها الأكثر مثالية عدم اليأس منها:على سبيل المثال "اتفاق اقتصادي هام، أو إقامة قاعدة عسكرية، أو لفتة باهرة للصداقة تجاه إسرائيل كفيلة بإسكات هذه الدروس الأخلاقية بسرعة، الأمر الذي يصعب باطراد تحمُّله من قبل المجموعات السياسية في البلدان المعنية".وهذه حقيقة ماثلة جعلت من أي طروحات تنويرية مثاراً للشك.
> لقدا ستطاع الغرب و لفترة طويلة من الزمن تأويل النزاعات في المنطقة على أنها نزاعات ذات طابع ديني أو ثقافي ليس الا وقد تبنى هذا الرأي شريحة كبيرة من شعوبنا وأستخدمت الورقة المذهبية كأداة ضغط في كل صراع أو احتراب، وبذلك وفَّر على نفسه الاعتراف بالعواقب الوخيمة المتكررة لسياسته، ووفر على نفسه تغييرها بحسب هذه العواقب. أما الآن، ربما يكون الوقت قد حان لرؤية الصراعات مجددًا ضمن الإطار المناسب لها بالفعل بعيداً عن الغرائزية.ويشترط هذا الأمر حوارًا صادقًا بطبيعة الحال وتوديع السخافات القائمة التي أعتدنا زجها في كل كبيرة وصغيرة.
أبرز الأخبار