10-11-2018
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
وإذا كان هذا من شأن أيِّ إنسانٍ متحضِّرٍ يَحْترِمُ عقلَه؛ فما بالُكَ إن كان هذا الإنسانُ مفكِّراً أو أديباً؟
ان ظاهرة الالتزام في الأدب قديمة قدم الأدب والكتابة، ففي العصر الجاهلي نجد أن الشاعر الذي يقف مع قبيلته هو شاعر ملتزم، لتنتشر وتتطور الفكرة وصولا الى سارتر الذي يرى بوجوب إلتزام الأدب مع ذاته مرددا مقولته "انظروا كيف أقول، وليس ماذا أقول" أي دعوة الى ادراك جمالية النص والأدب.
إنَّ الالتزامَ يجعلُ الأدبَ جادّاً فعَّالاً، ذا تأثيرٍ في مسار الحياة، وفي حركتها وذلك يُكْسِبُه المصداقيَّة والقيمة، ولو أخذنا برأي أصحاب (الفن للفن)، وبرأي بعض المدارس الحَدَاثِيَّة المعاصرة، التي تتخذ منحى (الفنِّ للفنِّ) لسَقَطَتْ منزلةُ الأدب لأنه سيتحوَّلُ عندئذٍ إلى لوحة لفظيَّةٍ، وزخارفَ كلاميَّةٍ، لا غرضَ لها أبعد من ذلك..!
ومن الإشكاليّات التي يُثيرها الادب الملتزم «جدليّة التفاعل مع الحاضر واستشراف المُستقبل» فالاديبُ الذي يتأثّر بالأحداثِ الراهنة ويستعجل التعبير عنها يجعل نصّه «زمنيا» لا أمل له في الخلود، ممّا يُميل الكفّة لصالح الإيديولوجيّ على حساب الفنّ، في حين أنّ الكاتب صاحبَ الرّؤية يتأنّى في الكتابة ويعتني بجماليّة النصّ ليضمن له حياة أطول خارج ظرفه الآنيّ وهذا يشكل ابرز حجج النقد للمدرسة الملتزمة .
ويمكن أن نلمس هذه الجدليّة في نمطين من التّعبير، الأوّل هو «التّصريح»، أي التعبير المباشر والواضح، وهو من مميّزات الخطاب الإيديولوجيّ. والثاني هو «التلميح»، أي استعمال التوظيف الرّمزيّ والإيحاء اللفظيّ وهو من خصائص النص الشعري.
سعى سارتر إلى إخراج الشعر من نطاق الالتزام ومن «مجال القدرة على حمل دلالة مُعيّنة» فسارتر قليلُ الكتابة عن الشعر حتّى قد يتّهمُهُ البعض بأنّه لا يُحبّه، فلن تجد له حديثا عن الشعر إلاّ في الفصول الأولى من كتابه "مواقف"
ولئن نعتَ سارتربالحُمق كلّ مَن خوّلت له نفسُهُ اعتبارَ الشعر مُلتزمًا،بحجة أنّ الشّعر عملٌ ذاتيّ أكثرَ من كونه كشفا لموقف معيّن وأنّ الشاعر يهتمّ بالجمال ولا يُبالي بالدلالة ولا يستعمل اللغة إلا جسرا لعالم من الخيال، معظمنا يذهبُ عكس ذلك ولا يقبل المذهبَ السارتريّ الذي ينبع من «المدرسة الفرنسيّة» ويرى أنّ الشعر في المُطلق يحمل في طيّاته موقفا من الحياة ومن العصر، إمّا تفاعلا وإمّا هُروبا، وليس بالضرورة أن يكونَ الموقفُ سياسيّا أو اجتماعيّا أو دينيّا.
ومن أمثلة الإلتزام في الأدب العربي المعاصر الراحل محمود درويش، الذي استطاع أن يرقى بقصيدة الحب الى آفاق رمزية جديدة حيث يتحول الافتراق عن الحبيبة والحنين إليها معادلا للحنين الى الأرض، إلا أن درويش نفسه يثور على الفهم السطحي للالتزام إذ يرى بأن الالتزام فني وليس اجتماعي، وأن النص الشعري الذي يكتبه وإن كان ينبع من الواقع فإنه يتأسس جماليا وليس رهين شروطه الخارجية، أما أدونيس فإنه يرى أن الالتزام الأدبي يتحقق داخل اللغة بتثويرها وإعادة كتابتها.
أبرز الأخبار