25-09-2022
آفــاق
|
اينوما
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
من يقرأ التاريخ يجد بأن حدة الخطابات السياسية المتشنجة التي نشهدها اليوم وتباعد الخيارات الاستراتيجيّة بين الأطراف يذكرنا بأجواء الحروب الاهلية . هناك مَن يدفع نحو كارثة كبيرة . أذكّر طلابي دوما بثمن الحروب الأهليّة وكلفتها الباهظة ... مقالي عن الحرب الأهلية الاسبانية.
من المؤكد أن كل أشكال الحروب مقيتة ، ولكن أبشعها نكهة وأمرها طعماً وأقساها على البشر هي الحروب الأهلية ، والحروب التي يقتل فيها الأخ أخاه والجار جاره فهنا فقط لا يحضر شموخ الإمبراطوريات ولا تميز القوميات ولا افتخار الأوطان بل هو قتل الأقرب فالأقرب ، ودمار البلدان والأوطان ، إنها الحروب التي تخدش ذاكرة الوطن بجروح لا تندمل.
يكتنز تاريخ البشرية قائمة طويلة من الحروب الأهلية المدمرة في كل أنحاء العالم وبخلاف الحروب بين الإمبراطوريات أو القوميات أو الدول فإن الحروب الأهلية ترتكز على الصراع حول المشتركات التي تنطلق منها بحثاً عن التمايز الضيق الذي يميز فئة عن فئة ومجموعة عن مجموعة ، وهنا أبدأ باسبانيا التي خضعت ولقرون للحكم الملكي ووصلت إلى ذروة الحاجة إلى الثورة ، فالملك ألفونسو الثالث عشر الذي احتفل الإسبان بإعلان الجمهورية في نهاية عصره ، بل في الأيام الأخيرة من حكمه على وجه الدقة ، لم يشأ أن يرهق الإسبان بخروجه من الحكم ، وسقطت الملكية دون أن تُزهق قطرة دماء واحدة في الأول من نيسان 193 .هتلر وموسوليني في ذروة المجد والقوة، هكذا كانت الصورة في بدايات الثلاثينيات ومروراً بتلك الحقبة الموحشة من تاريخ أوروبا ووصولاً إلى الأربعينيات من القرن العشرين ، وُجد معسكر الحلفاء متمثلاً في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي تئن تحت وطأة الضعف والفقر أنفسهم في معادلة غريبة ربما لم يتوقعها أحدهم.
كانت إسبانيا النقطة الأوروبية التي لم تحسم بعد موقفها من تلك المواجهة المتصاعدة والتي إبتُليت بحالة حادة من الاستقطاب أدخلتها نفقًا لا يمكن الفكاك منه ، وعلى إثره اشتعلت الحرب بين الفاشية متمثلةً في الجنرال فرانكو ومن انضموا له من وحدات الجيش الإسباني ، وعلى المقلب الأخر الاشتراكية والشيوعية ، محتمين في ديمقراطية الوصول للحكم عبر الصندوق ، لكنهم بلا حلفاء يُذكرون فالحلفاء السابق ذكرهم يُعلنون دوماً تأييدهم الديمقراطية كمذهب سياسي فقط وكغطاء للحرب ضد نازية هتلر وفاشية موسوليني ، لكنهم في الوقت ذاته لا يؤمنون بكل تلك المذاهب التي تشكل نسيج الديمقراطية في هذه الحالة.
إذاً بدأت الاختلافات والمناوشات بين التيارات السياسية المختلفة في إسبانيا وبين اليمين المتطرف ، متمثلًا في الفاشية التي علا صوتها في إيطاليا على يد موسوليني في تلك الفترة ليبدأ العد التنازلي لسنوات ما قبل أبشع الحروب الأهلية في تاريخ أوروبا ، حيث ضاعت البوصلة وبقيت إشكالية هذه الحرب العبثية راسخة في الأذهان حتى يومنا هذا ، وظل الجيش الإسباني محتفظًا بصمته تجاه عزل الملكية وإعلان الجمهورية لما يُقارب الـ 60 شهراً ، على عكس الكنيسة التي لم تُخفِ غضبها الواضح من إنهاء الملكية والتعاطف مع الطبقة الأرستقراطية.
فشلت محاولة الانقلاب حينئذ ، لكنها دقت جرس إنذار كبير لمؤيدي الجمهورية، خاصة أنها تزامنت مع تصاعد النزعة الانفصالية لدى سكان إقليمي كتالونيا والباسك فكتالونيا على سبيل المثال كانت من أغنى القطاعات الإسبانية وأكثرها ازدهاراُ في العديد من الجوانب رغم تبعيتها لحكم مدريد المركزي ، وهو ما زاد من أزمات الجمهوريين الذين أعطوا المزيد من الصلاحيات والحريات للإقليم ، ولم تكن فترة الحكم الأولى او ما يسمى بفترة ما بعد الثورة كما يرغبها الإسبان ، فانسحب الاشتراكيون من الحكومة بسبب ما حدث ، وبدأ الغليان الشعبي بجانب تأخر الإصلاحات الموعودة ، ثم جرت الدعوات حينها إلى انتخابات مبكرة.
وبحلول عام 1936 دخل الصراع مرحلة جديدة خطرة حيث جاء موعد الانتخابات، وقد أراد الاشتراكيون تعويض فشلهم الذريع في إحداث أي تغيير في سياسة حكومة مدريد، بالإضافة إلى رغبتهم في إخراج رفاقهم الذين وقعوا في السجن إبان انتفاضة استورياس عام 1934 والذين وصل عددهم في بعض التقديرات إلى 10 آلاف سجين ، ووصلت حالة الاستقطاب السياسي إلى ذروتها خاصة بعد تصدر المشهد الزعيم السياسي خوسيه ماريا جيل روبلس والذي تخوَّف الجميع منه ، متزعماً حركة اليمين والفاشية المتخفية في إسبانيا ، وقد قام بدعاية سياسية ضخمة في إسبانيا كلها مُعلناً ترشيح نفسه من أجل إسبانيا ومن أجل الشعب.
وفي الجبهة المقابلة توحَّد كل اليساريين في جبهة واحدة ، واضطر الأناركيون أن يؤيدوا جبهة اليسار دون أن يكون لهم تمثيل حقيقي داخلها ، وذلك من أجل تحرير معتقليهم من سجون مدريد ، بالإضافة إلى خوفهم من تولي روبلس مقاليد السلطة في مدريد، وهو ما كان بمثابة الكابوس بالنسبة لهم.
في 16 شباط عام 1936 وصلت إلى القمة الجبهة الشعبية التي تشتمل على اليسار والاشتراكيون وذلك بعد الفوز في الانتخابات بنسبة كبيرة ، وقد اشتعلت النار بعدها
فشعرت جبهة اليمين بالخذلان بعد فشل جيل روبلس في الوصول إلى مقعد السلطة، وبدأت بالبحث عن خيارات بديلة كان أولها وأهمها التنسيق مع بعض الضباط المنتمين لهم في الجيش ، والذين يحملون بالتبعية كراهية ورفضاً لوصول اليسار إلى الحكم ، وقد أثار ذلك قلق اليسار في الحكومة فقاموا بإبعاد بعض من ضباط الجيش ذوي الرتب العليا إلى مدن بعيدة ، ومن أبرز من تعرضوا لذلك الجنرال فرانثيسكو فرانكو الذي خشي اليسار من وجوده قرب مدريد بعد معرفة مدى قوته التي ظهرت في قمع انتفاضة استورياس ، ونُقل فرانكو إلى جزر الكناري وكذلك تم إبعاد الجنرال إميليو مولا إلى مدينة بامبلونا ، وكان ذلك هو الخطأ الذي دفع اليسار ثمنه غالياً.
في الوقت نفسه خرجت جحافل الرافضين من كل حدب وصوب يطالبون بما يرونه حقاً مكتسباً ومشروعاً ، فخرج 15 ألف عضو من حركة الحزب الفاشي في إسبانيا والذي أسسه خوسي أنطونيو (الذي أعدمه الجمهوريون فيما بعد) وأعلنوا إنضمامهم الى صفوف المحتجين . أما على الصعيد الشعبي فقد خرج عمال المزارع الغاضبون على سوء أحوالهم في استرامادورا ليعلنوا استيلاءهم على مزارع المدينة وحقولها من أيدي ملاكها الأثرياء ، وكانت النتيجة استيلاء 60 ألفاً من العمال على 3 آلاف مزرعة في 25 آذار من عام 1936 وإعلانها ملكية خاصة بهم ، لذا فبإمكاننا القول إن طرفي النزاع كانا على استعداد كامل للاشتباك ، لكن كلًّا منهما كان في إنتظار عود الثقاب الذي سينفجر بعده كل شيء.
وهنا قد بدأت الحرب، وكان الخطأ هو ما يحكم البدايات ، فاليسار وبعد أن وجد الجيش في الشارع بدأ بالحصول على الأسلحة والمعدات استعدادًاً للمواجهة ، وكان الخطأ هو اعتقاد كل من الطرفين بضعف الآخر، فاليسار اعتقد أن ما يحدث هو مجرد إنقلاب مشابه لحركة سانخورخو الفاشلة وسينتهي سريعاً ، والجيش واليمين اعتقدا أن اليسار أضعف من المواجهة وسينجح الانقلاب في خلال ساعات ، لكن كليهما لم يكن يدرك أنه على وشك الدخول في معركة عبثية دموية لن تنتهي إلا بعدها بسنوات.
تحرك فرانكو بقواته إلى مدريد بطائرات ألمانية وانقسم الجيش على نفسه ، فالنصف متمسك بوجود الجمهورية ويرى ضرورة بقاءها والدفاع عنها ، والنصف الاخر يرى أن اليسار يجب أن يترك الحكم بأي طريقة ، كذلك الطوائف الشعبية فالعمال خرجوا إلى الشارع وحصلوا على السلاح لمساعدة الشرطة في إيقاف التمرد، بينما ساعد آخرون قوات الجيش المتمردة ، ودخل العنصر الأجنبي في المعركة لا سيما وأن العالم كان على صفيح ساخن ، وأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية كانت تسيطر على المشهد العالمي ، فها هي الإمدادات قادمة من فرنسا لدعم الجمهوريين، لكن قوات الجيش تواجههم قبل الدخول ، وقوات إيطالية لدعم اليمينيين والجيش يقف بجانب فيلق كوندور الألماني المُرسَل من هتلر.
وتوالت المعارك والأحداث على مدى 3 سنوات عجاف سقط فيها أكثر من 600 ألف قتيل بحسب التقديرات ، وشاركت فيها كل العناصر الخارجية التي وجدت في معركة إسبانيا جزءاً من حربها بالوكالة لفرض السيطرة. وبالطبع إرتكب الطرف الجمهوري فظائع خلال الحرب ، لكنها لا تُقارن بالفظائع التي ارتكبها الطرف الفاشي ، وهذا لا يُبرر بأي طريقة فظائع أي من الجانبين ، والمتعارف عليه أن طرفي الحرب ينكران الفظائع التي ارتكباها ، ويُضخم كل طرف من فظائع عدوه، لكن دائمًا يظل في أي حرب طرف يُقارب الصواب ، أو في أسوأ تقدير يمنع انتصاره كارثة أكبر مما تكون عليه في حال هزيمته.
كانت إسبانيا على وجه التحديد ومن بين كل الأوراق الأوروبية المتداعية خلال الحرب ، واحدة من أهم البطاقات التي غيّرت وجه المعادلة أكثر من مرة ، فالأعداء تحالفوا وتقاتلوا ثم عادوا للتحالف من جديد على أرضها ، وأما عن الأعداء التاريخيين ومحاربي الأيدولوجيات فكانت المصالح المشتركة بينهم أكبر من كل المواجهات التاريخية ، وستظل الحرب الإسبانية قصة مفتوحة لحروب الوكالة طويلة الأجل ، تلك التي تتجدد في كل زمان ومكان..
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار