31-08-2023
محليات
|
المفكرة القانونية
هدى زبيب
هدى زبيب
تقف جوانا ابنة الثلاث سنوات ونصف السنة، تستقبل الوافدين والوافدات إلى حديقة جبران خليل جبران، يوم أمس الأربعاء 30 آب، لإحياء “اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري”، تقف جوانا وبين يديها الصغيرتين صورة تتأمّلها وتقبلها. ولدى سؤالها عن صاحب الصورة، تجيب: “هيدا جدّو عبد الهادي، اشتقتله وبشتاق يعبطني ويحملني”.
لم يكن بشار، والد جوانا، قد تجاوز تسع سنوات عندما اختطف والده المعاون أول في قوى الأمن الداخلي عبد الهادي المعلم، في العام 1984، “لا نعرفه إلّا بالصورة”، تقول أنجاد، عمّة جوانا التي كانت في الخامسة لدى اختطاف والدها، لـ “المفكرة القانونية”. وتضيف: “منذ 39 عامًا ذهب والدي إلى تأدية خدمته في ثكنة الحلو، على أن يعود بعد يومين، إلّا أنّه لم يعد أبدًا. بعد فترة علمنا أنّه اختطف وتمّ تسليمه إلى السوريين، هكذا قيل لنا، وكانت أختي الصغرى، ثالثة أولاده بالكاد قد أتمّت السنة والنصف من عمرها”. ومنذ ذلك الحين، تتابع: “بدأنا رحلة البحث والسؤال عن مصيره، تعرّضنا للاستغلال من قبل كثيرين، وعدونا بمعلومات عنه مقابل مبالغ طائلة، ودفعنا الأموال الطائلة، لكن من دون أن نحصل على أي نتيجة أو أي أدلّة حسّية أو ملموسة عن مكان وجوده”.
منذ تاريخ اختفاء أحبّتهم، توقّف الزمن لدى أهالي المخطوفين والمفقودين، وبقي زمن الحرب اللبنانية معلقًا بمآسيها وأهوال القتل والعنف والخطف والتعذيب. وصنع الأهالي 600 دفتر سمّوه دفتر “الزمن المعلّق”، طبعوا على غلافه الأمامي صور أحبائهم، وكتب كلّ منهم على غلافه الخلفي رسالة إلى مفقوده حمّلها أطنان الشوق والحنين، ثم خاطوه قطبة قطبة وزرعوا مع كل غرزة قبلة وغمرة. دفتر تركوا صفحاته بيضاء، لأنّ الأهالي أرادوا خلال استعماله أن تبقى قضية مفقوديهم في الذاكرة.
نوال حدرج شقيقة المفقودة آمنة حدرج التي فقدت في الدكوانة في العام 1976 مع زوجها منير سعيد وجميع أفراد عائلته البالغ عددهم 15 شخصًا، كتبت على خلفية دفتر يحمل صورة أختها: “أختي العزيزة آمنة، كانت بهجة البيت وفرحته. كانت البنت المدللة عند أمي وأبي، البنت المطيعة. كانت تكبرني بـ 3 سنوات وكنت أراها أجمل الجميلات وكانت المثل الأعلى لي في الحياة. كنا ننتظر ولادة مولودها الأول، فكان الغدر أقوى منا، اختفت هي وزوجها وكل عائلته. ماتت أمي ومات أبي وهما على أمل أن يعلموا عنها أي شيء”.
وعلى دفتر آخر، كتب شقيق المفقود غالب إبراهيم رضوان (1987) :”سيظهر قوس قزح ونستقبله معًا مثل الماضي. أخي أنت غائب عنا وحاضر معنا، كالشمس حين تغرب عن ديارنا لتشرق على ديار أخرى”.
ومما خطّه شقيق إبراهيم حسن الظاهر (1988) على الدفتر: “أصعب ألم أن ترسم الضحكة على شفاهك وداخلك ينتحب، أن تجامل من حولك بالفرح بينما الحزن داخلك. أصعب ألم أن تثق بالحياة في زمن الشقاء وتثق بالصوت في زمن الصمت والجريمة”.
أمس، كما في كل ذكرى وفي كل مناسبة، يعود الأهل في الزمن إلى الوراء، للتذكير بأكثر من 17 ألف مفقود ومخطوف، لا تزال أرواحهم معلّقة من دون أن يتمّ الكشف عن مصيرهم. يعودون محمّلين بغصّة السؤال عن أحبائهم “وينن؟”، والأمل بمعرفة المصير مهما كان هذا المصير. وإذا كان إحياء اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري المحدد في 30 آب من كل عام، قد بدأ العام 2011، أي منذ 12 عامًا، “لكنه بالنسبة إلينا قد بدأ منذ اندلاع الحرب أي منذ 48 عامًا”، تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وداد حلواني. وتضيف “ويستمر اليوم أكثر من أي يوم مضى أمام مشهد الرفات البشرية التي عثر عليها صدفة، منذ أيام قليلة في جبانة بلدة مدوخا البقاعية، وعرضت على شاشات التلفزيون وتداولتها وسائل التواصل الاجتماعية”. وعن هذا الأمر تشير حلواني إلى أنّ الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا لم تتأخر عن النزول على الأرض لتقوم بدورها وفق الأصول، لكنها تسأل أي دور وأي أصول وهي، أي الهيئة، لا تملك ما يلزم لمثل هذه المهمة إلّا الإرادة”.
وفي هذا الإطار تقول حلواني لـ “المفكرة”: “لدى سماعي خبر العثور على الرفات اضطربت وتخيّلت أن ذلك حصل مع كل أم وأخت وزوجة، كلّنا نعلم أنّ مفقودنا ليس بالضرورة على قيد الحياة، لكن عند هكذا خبر يتملّكني الغضب، إضافة الى حزني وألمي، كون هذه السلطة غير المسؤولة تركتنا من 48 عامًا، أبسط واجباتها أن تتعامل مع المقابر الجماعية، لأنّ رفات الناس، هي رفات لها كرامة، بينما تترك الرفات مبعثرة هنا وهناك. فمؤخرًا عثروا على رفات في الشبانية واليوم في مدوخا، ولا نعلم متى وأين سيعثرون بعد. هذا دليل الإهمال واللامسؤولية في إدارة السلطة لشؤون مواطنيها”.
وتتابع: “يومها لم يهدأ هاتفي كل النهار، خصوصًا من الأهالي، كنت أعمل على تهدئتهم وإخبارهم أنّ الهيئة الوطنية باشرت ووضعت يدها على الموضوع وتواصلت مع النيابة العامة، وكلّ الأجهزة المعنية، ومنعت نبش هذه الرفات وسحبها، بل إعادتها إلى مكانها، طالبة ختمها بالشمع الأحمر إلى حين يحين الوقت للتحقق منها، ومعرفة هوياتها لتتسلمها عائلاتها وتدفنها بشكل لائق”.
وكانت حلواني سألت في كلمتها، الحكومة كلها، رئيسًا ووزراء: “هل يمكنك أن تفكر لدقيقة واحدة في أحوال أي من أمهات أو آباء أو أبناء ممن فقدوا ابنًا أو أبًا أو أخًا منذ عقود أربعة وما زالوا يجهلون مصيره ومكان وجوده حتى اللحظة حيًّا كان أم ميتًا؟ هل يمكن لوزير واحد أن يتصوّر كثافة المشاعر والأحاسيس المتضاربة التي تناتشت هؤلاء الأهالي أمام البقايا البشرية التي خرجت من تحت التراب تبحث عمّن يعرّف عن هويّاتها لتتسلّمها عائلاتها وتدفنها بشكل يليق بها؟ أوَليس إكرام الميت دفنه يا حضرات المسؤولين؟”.
وأكدت “نعم نحن تمكنّا، بعد سنوات طويلة ومتشعّبة وصعبة من النضال والمثابرة من تثبيت حقّنا بمعرفة مصير أحبائنا، بانتزاع القانون (105/2018) قانون المفقودين والمخفيين قسرًا. فلماذا تحجبون هذا الحق؟ هذا القانون/الإنجاز الذي شارف على إكمال الـ 5 سنوات بعد أشهر ثلاثة.. فإنه للأسف ما يزال بالنسبة لنا حبراً على ورق. ولم يطرأ أيّ تغيّر ملموس على وضعنا ولم تنقص أوجاعنا ولم تخفّ بل تزيد”. وبعدما أشارت إلى أنّه “نعم لقد تمّ بموجب هذا القانون تشكيل هيئة وطنية للكشف عن مصير أحبائنا، وها هي قد أتمّت الثلاث سنوات من ولايتها المحدّدة بالقانون بخمس سنوات غير قابلة للتجديد، كأنّها مكانك راوح.. لم يطرأ على قضيتنا أي تقدّم إيجابي باتجاه الكشف عن مصير أحبائنا”.
أظهر تقرير لتقييم احتياجات عائلات الأشخاص المفقودين بسبب النزاعات المسلحة أعدّته اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان، أنّ عدم معرفة مصير قريب عزيز يشكل الواقع الأليم الذي تعانيه أعداد لا تحصى من العائلات أثناء النزاعات المسلحة، يجعل من المحال عليهم في غالب الأحيان المضي قدمًا في بناء حياتهم. فالجروح غائرة لن تندمل بدون الحصول على أجوبة عن مصير المفقود ومكان وجوده. وحالة القلق التي يولّدها عدم المعرفة يمكن أن يترك أثرًا عميقًا على كل أفراد العائلة ويسبّب بعلل ومشاكل ليس داخل العائلة فقط بل داخل المجتمع. هذا عدا عن الاحتياجات العاطفية والنفسية. في إحدى الشهادات يعترف أحد أبناء المفقودين: “كنت أغار من كلّ الذين لديهم أب، وأشعر أنني غير مكتمل”. وفي شهادة أخرى يقول شقيق أحد المفقودين:”العلاقة مع أمي تغيرت كثيرًا، لا أعلم ما إذا أصبحت أسوأ، لكنني أذكر أنه كلما كانت تطبخ لنا، كنا نأكل دموعها مع الطعام لأنّها لم تتوقف أبدًا عن البكاء”.
رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر سيمون كاسابيانكا إيشليمان، أشارت في كلمتها إلى مرور أكثر من 10 سنوات منذ أن بدأت اللّجنة في دعم عائلات المفقودين والمخفيين قسرًا في لبنان من خلال جمع بيانات ما قبل الاختفاء والعيّنات المرجعيّة البيولوجيّة من العائلات المتضرّرة من أجل السماح للسلطات والهيئات المختصّة المنشأة لتحقيق هذا الهدف بتوضيح مصير المفقودين وأماكن تواجدهم في نهاية المطاف. واليوم، تواصل اللّجنة الدوليّة بذل قصارى جهدها في مرافقتها الفنيّة للهيئة الوطنية لمساعدتها على إنجاز مهمّتها الإنسانيّة وتطوير قدرتها على البحث عن المفقودين وتحديد هويّتهم”.
“كلنا ضحايا والمجرم واحد”… بهذه الكلمات تنهي حلواني اللقاء، داعية إلى توحيد الجهود لمنع الاستمرار بتوسيع دائرة الفقدان: “الحقيقة المفقودة، العدالة المفقودة، المحاسبة المفقودة، الأمن المفقود، الدواء، الخبز، العلم، الحرية المفقودة والكرامة المفقودة”.
1
2
3
4
5
6
أخبار ذات صلة
قضاء وقدر
العثور عن امرأة مفقودة في احراج غادير