25-03-2024
صحف
|
الأخبار
قبل ساعات من الاجتماع الأخير في بكركي الخميس الماضي، أعلن رئيس جهاز العلاقات الخارجية في القوات اللبنانية ريشار قيومجيان، في مقابلة تلفزيونية، أن حزبه «يتجنّب اللقاءات غير المجدية واللقاء للقاء أو الحوار للحوار»، حاسماً بأن «لبّ المشكلة» هو «وجود حزب الله كما هو عليه، وسلاحه وارتباطاته الإقليمية»، وليس المناصفة أو المشاركة أو النزوح السوري أو اللاجئين الفلسطينيين. هذا هو «لبّ الصراع» و«على أساسه تحصل اللقاءات والحوارات والأوراق الثنائية»، و«لسنا على استعداد للمضي قدماً في الكذب على اللبنانيين عبر البنود والأوراق والصياغة واختيار الكلمات دون الوصول إلى مكان».
وبوصفه ناطقاً رسمياً باسم القوات ومسؤولاً كبيراً في «تركيبة جعجع»، يمكن استخلاص نقطتين رئيسيتين من مداخلة قيومجيان:1 - بدل أن تتراجع القوات خطوة إلى الوراء بعد اعتراف الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإسرائيل وغالبية الدول الخليجية بأن «سلاح الحزب» ليس موضع النقاش الذي يتركز على ما يمكن توفيره للحزب من ضمانات ليرجع، مع سلاحه، إلى خلف الليطاني تطبيقاً للقرار الدولي 1701، آثرت القوات التقدم خطوة إلى الأمام وتجاوز «قضية السلاح» إلى «حزب الله كما هو عليه»! إذ لم تعد تريد منه تسليم سلاحه فحسب، إنما ذهبت أبعد بكثير في المطالبة بقطع ارتباطات الحزب الإقليمية، بما يشي وكأنّ قائد القوات سمير جعجع يقف على تلة النصر في ختام معركة عسكرية سحقت حزب الله ويلوّح له بحبل النجاة شرط «تسليم السلاح» و«قطع العلاقات الخارجية». وهذا، في ظل ارتباطات القوات الإقليمية والتعاون الأمني الخليجي المستجدّ مع حزب الله وكل المعادلات العسكرية في أرض المعركة، يشير إلى انفصال خطير عن الواقع تعيشه القوات يتناقض بالكامل مع ما أوحى به جعجع في مقابلاته الأخيرة لجهة العقلانية والواقعية.
2 - اعترف قيومجيان نحو ثلاث مرات خلال دقيقتين بأن القوات كانت «تكذب على نفسها والرأي العام عبر البنود والأوراق والصياغة واختيار الكلمات»، إذ لا مبرر لأي حوار أو نقاش لا يُختصر ببند وحيد: تسليم الحزب لسلاحه وقطع علاقاته الإقليمية وتغيير «وجوده كما هو عليه».
هذا كله نحو الحادية عشرة والنصف قبل ظهر الخميس الماضي، حيث كان يفترض، بناءً على مداخلة المسؤول القواتي، أن تعلن القوات رفضها المشاركة في اجتماع بكركي طالما أن البطريرك بشارة الراعي ليس بوارد تحويل الصرح البطريركي إلى غرفة عمليات لحلف الناتو. غير أن ممثل القوات في اجتماعات بكركي النائب فادي كرم وصل يومها، قبل غيره، للمشاركة في ما وصفه قيومجيان بأنه «كذب على اللبنانيين عبر بنود وأوراق وصياغات لا تصل إلى أي مكان». وخلال الاجتماع، كان أداء كرم مختلفاً تماماً عن ما عبّر عنه قيومجيان في اليوم نفسه، إذ كان إيجابياً وودوداً وبارعاً في تدوير الزوايا وعقلانياً في النقاش.
اجتماع بكركي (الثاني) سبقته (وتتبعه) اجتماعات مكثّفة للجنة الصياغة التي يرأسها راعي أبرشية أنطلياس أنطوان أبو نجم، وتضم رئيس جهاز العلاقات الخارجية السابق في القوات (1978-1985) المحامي نعوم فرح والنائب القواتي السابق إيلي كيروز وشخصية ثالثة (زياد الصايغ) أكثر توتراً من القوات والكتائب (لا أحد يعلم كيف أو لماذا أدخل إلى اللجنة مدخلاً معه مفردات مليئة بالحقد على الآخر)، ما أدى إلى طغيان «نفس 14 آذار» على نقاشات اللجنة ومسوّدتها.
في الاجتماع الأول، في 7 آذار، شارك المطرانان بولس مطر وبولس صياح. ركّز الأول على «العقلانية» في هذه المرحلة الدقيقة، وعلى «الوطن الواحد» و«الحوار الوطني»، وشدّد الثاني على خطر تفريغ الإدارة من المسيحيين والاستئثار بالحكم، في ظل صمت البطريرك بشارة الراعي. وهو ما كان له أثره في الاجتماع الثاني في 21 آذار، رغم تغيّب مطر وصياح. فقد بدا المطران أبو نجم محيطاً بالمهمة الموكلة إليه لصياغة وثيقة بحجم بكركي لا بحجم القوات أو الكتائب. وإذا كانت خطة القوات تقوم على استدراج التيار الوطني الحر إلى خيار مشكل مع حزب الله يوصل إلى طلاق كامل معه، أو مشكل مع بكركي يخرج التيار فيه نفسه من الحوار الذي يدعو إليه، فإن إدارة الراعي المشتركة مع أبو نجم من جهة وحنكة ممثلَي التيار النائب جورج عطالله وأنطوان قسطنطين سمحتا بإيجاد خيار ثالث: الانتقال من الحالة السلبية العامة إلى الحالة الإيجابية العامة، البحث عما يجمع بدل البحث عما يفرق، والسعي للبناء بدل الهدم. وقد تلقّف الراعي ملاحظة قسطنطين عند بدء الاجتماع بوجوب التفكير لبنانياً لا مسيحياً، لأن مصير المسيحيين لا يتقرر بمعزل عن مصير لبنان، فسارع البطريرك إلى اقتراح تغيير العنوان من «المسيحيون إلى أين؟» إلى «اللبنانيون إلى أين؟». وفيما كانت القوات والكتائب ومن معهما يطمحون إلى أن يضعوا في خانة الأخطار في مطلع الوثيقة: حزب الله وحده ولا شيء غيره، فإن المجتمعين - بمن فيهم القوات - خضعوا للعقل والمنطق حين وافقوا على ترتيب المخاطر كالتالي: اضمحلال دولة الدستور والقانون والمؤسسات، النزوح السوري، خطر توطين اللاجئين الفلسطينيين، بيع الأراضي من قبل المسيحيين، نزيف الهجرة المأساوية، التراجع الديموغرافي، الفساد، الخلاف السياسي المسيحي - المسيحي، صعود التيارات المتطرفة الإسلامية التي تهدد المسيحيين والمسلمين، فرض تبديل نمط الحياة وتغيير بعديها الثقافي والاجتماعي في بعض المناطق اللبنانية، تراجع الحضور المسيحي في وظائف القطاع العام، التحالفات السياسية الهجينة خارج الثوابت. وهذه بحد ذاتها أكثر من مجرد عناوين في مطلع الوثيقة المنتظرة، بل إعادة تموضع للخطاب المسيحي الرسمي بعيداً عن الشعبوية والشعارات والكلام المتوتّر الذي يعمّ الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي. وإذا كان مضمون البند الخاص بخطر «تبديل نمط الحياة» يراعي ما تردّده الوزيرة القواتية السابقة مي شدياق ورئيس جهاز الإعلام في القوات شارل جبور وبعض العونيين الذين يدورون في فلكهما على مواقع التواصل الاجتماعي، تؤكد وثيقة الراعي أنه يمكن مصارحة الآخر بهذه الهواجس بلغة هادئة وعقلانية ورصينة بعيداً عن «الشوارعية». أضف إلى ذلك أن وضع القوى السياسية والروحية المسيحية بنداً خاصاً بالتراجع الديموغرافي ضمن المخاطر هو بحدّ ذاته خطوة متقدّمة لجهة الاعتراف بالمشاكل الحقيقية ومقاربتها بجدية، وكذلك الأمر في ما يتعلق بـ«بيع المسيحيين لأراضيهم» و«استسهال الهجرة». إنها نقلة مارونية نوعية أن توضع المخاطر الحقيقية على الطاولة ويبدأ النقاش فيها والبحث عن حلول لها.
ومن المخاطر إلى الثوابت: أولاً، «الحرية بكل أبعادها»، ويضاف إليها في الثابتة الخامسة «التأكيد على الطابع التعددي والحق بالاختلاف»، وهو ما يفترض أن يشمل على الصعيد الشعبوي مثلاً حرية ارتداء المايو في صيدا وطرابلس وصور وحرية ارتداء الحجاب في جونية وجبيل؛ حرية صاحب المطعم في بيع الكحول في مطعمه وحرية صاحب مطعم آخر بعدم بيع الكحول في مطعمه؛ إذ إن الحرية كل لا يتجزأ: حرية المعتقد وحرية الإنشاد وحرية الصلاة وحرية الاختلاف. ثانياً (ضمن الثوابت)، العيش المشترك السويّ بين المسيحيين والمسلمين الذي يشكل أبرز ثوابت الهوية اللبنانية. وهو ما يفترض أن ينهي الأحاديث عمن «يشبهوننا ولا يشبهوننا» أو «مناطقهم ومناطقنا»، ويوقّع بالختم البطريركي على «ثابتة العيش السويّ معاً». في وقت نصّت الثابتة الرابعة على التمسك بميثاق 1943، لا شرق ولا غرب، بما يعنيه ذلك من عدم الالتحاق بالمحاور وعدم إقحام لبنان في صراعات المنطقة والعالم.
وهنا لا بد من بذل جهد كبير لإقناع الرأي العام، والمجتمعين أنفسهم، بوجود محورين لا محور واحد؛ شرق وغرب يتدخلان في لبنان، لا الشرق فقط كما توحي مداخلات القوات والكتائب وغيرهما. وفي هذا السياق، يجب إبراز تبعات إقحام الغرب للبنان في صراعات المنطقة عبر تهجير مليوني نازح سوري والإصرار الغربي على دمجهم في المجتمع اللبناني، إضافة إلى تهجير نصف مليون لاجئ فلسطيني والإصرار على توطينهم في لبنان، ليصار إلى السؤال جدياً - بعيداً عن شعبوية القوات وشعاراتها - عمّن يلحق لبنان بالمحاور فعلاً ويقحمه في صراعات المنطقة والعالم، وكيف يمكن لمن يتموّل من الغرب أن يقول إنه مع ميثاق 43: لا شرق ولا غرب. وإذا كان العونيون قد حقّقوا انتصاراً في إيرادهم ضمن الوثيقة البطريركية البند الخاص بـ«عدم ميثاقية أي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» على غرار سلطة الرئيس نجيب ميقاتي اليوم، ووضع بكركي ضمن ثوابتها: استكمال تطبيق الطائف و«سدّ ثغراته» في نقلة نوعية كبيرة، فإن النجاح العوني في اجتماع الخميس تُرجم أكثر في الحوار العقلاني بين ممثلي التيار وممثل القوات الذي خلص إلى الانتقال من مطالبة الحكومة اللبنانية بتنفيذ القرار 1559 (إذ لا يمكن مطالبتها بتنفيذ قرار ليست هي من اتخذه)، إلى المطالبة (دون تحديد جهة محددة) بالالتزام بتطبيق كل القرارات الدولية بما فيها تلك المتعلقة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم. وإذا كان البند المتعلق بتحييد لبنان عن سياسات المحاور كمنطلق لإعلان حياده هو البند الخاص بالبطريرك الراعي، فإن «الثابتة» الوحيدة التي تتماهى مع خطاب القوات أتت في الترتيب العاشر للثوابت، ونصّت على «تحمل الجيش والقوى العسكرية والأمنية اللبنانية الشرعية حصراً مهمة الدفاع عن لبنان»، رغم أن النقاش في هذه أيضاً أخذ مداه حين سأل أحد المشاركين عن دور البيانات الوزارية، وعمّا إذا كان لبنان قادراً على الدفاع عن نفسه إذا تعرّض لاعتداء إسرائيلي، فوافق كرم على وجوب الضغط على حلفاء لبنان لتعزيز قدرات الجيش الردعية أولاً.
في النتيجة لم تحقق القوات وحلفاؤها، في اجتماع الخميس، أهدافهم، فعمدوا إلى تسريب مسوّدة الوثيقة وبدأوا حملة جديدة للضغط على بكركي، إذ إن النص الوطنيّ التصالحيّ يلغي مبرر وجود الموتورين والمتوتّرين، في ظل نزاع واضح يعيشه جعجع اليوم بين الشعبوية العدائية الفارغة التي تواصل الدوران في الحلقة المفرغة نفسها ــ يكاد قيومجيان يكون خير من يعبّر عنها ــ والعقلانية المنطقية الهادئة التي يعبّر عنها عدد من نوابه.
المؤكد أن بكركي خطت الخميس، مدعومة بقوة من التيار الوطني الحر، خطوة متقدّمة نحو الوثيقة الوطنية التي تضع المشاكل الرئيسية على الطاولة، قبل الانتقال إلى المرحلة الأصعب المتمثلة بالبحث عن حلول عقلانية ومنطقية لهذه المشاكل.
ملاحظة 1: اختصاراً للمساحة، تم التركيز على دور كل من القوات والتيار وموقفيهما في اجتماعات بكركي، فيما اتّسمت مداخلات آخرين شاركوا فيها كالكتائب والأحرار بالتوتر الغرائزي المعهود الذي لم يعره المنظّمون أي اهتمام لرغبتهم في كتابة نص يرتقي إلى مرتبة الوثيقة بعيداً عن الشعر والصخر والحفر والكتائب.
أخبار ذات صلة
لكل مقام مقال
لهذه الاسباب لم تكن قمة بكركي الروحية استثنائية