لا يُمكن فهم إخلاء سبيل جميع موقوفي ملف العقارية إلا إشارةً إلى أنّ القضية بدأت تسلُك مساراً «غير مريح»، قد يشكّل نقطة الصفر لتمييعها بـ«ضربة معلّم» قضائية من شأنِها تحقيق هدفين: رفد خزينة الدولة بالأموال مع احتمال عودة العمل إلى السجّلات في مدى زمني أقرب مما كان متوقعاً، وتهدئة نفوس من يشعرون بـ«ظلامةٍ» طائفية طاولت مناطق من دون سواها.
رئيس الهيئة الاتهامية في جبل لبنان ربيع حسامي اتّخذ قراراً بإخلاء سبيل جميع الموقوفين في ملف الدائرة العقارية في بعبدا (قلمي بعبدا وعاليه)، ومن ضمنهم كبار الموظفين، مقابل كفالة مالية كبيرة بقيمة 30 مليون ليرة، ولم تتضمّن حيثياته أي منع سفر أو منع مزاولة المهنة، باستثناء أمينة السجّل العقاري في بعبدا نايفة ش. التي أبقى عليها موقوفة لـ«عدم تقديم وكيلها طلب إخلاء سبيل»، كما تفيد معلومات «الأخبار»، وليس لأي اعتبارٍ آخر. وأتى القرار استجابةً لطلب وكلاء الدفاع عن الموقوفين بإعادة التحقيق من جديد، وهو ما يسمى «التصدي للملف». هذا الإخلاء يعني، وفق مصادر حقوقية متابعة للملف، أنّ الاتهامية قد تغيّر الوصف الجرمي للموقوفين من جناية إلى جنحة والإطاحة بالقرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان نقولا منصور.
في بداية آذار الجاري، أصدر منصور قراره الظني بعد ثلاثة أشهرٍ على توقيف الموظفين. وبموجبه أخلى سبيل 26 من صغار الموظفين (19 من قلم بعبدا و7 من قلم عاليه) وظنّ بهم جنحة، بينما أبقى على 8 موقوفين واعتبر فعلهم جناية. وهؤلاء من كبار الموظفين كأمينة السجل ورؤساء المكاتب ومسؤولي الشبابيك. كما قضى القرار حينها بمنع الجميع من السفر ومزاولة المهنة لمدة شهرين. وحوّل منصور القرار على النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، وبعد أن نظرت فيه القاضية غادة عون، وافقت على إخلاءات السبيل، وضمن المسار القضائي، بات الملف في عهدة الهيئة الاتهامية للنظر فيه.
القرار أثار وقتها ضجّة في أوساط وكلاء الموقوفين الثمانية، الذين اعتبروا أن «لا إثباتاتٍ على تهم الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال وغيرها الموجّهة إلى موكّليهم. وأن الأدلة بمعظمها مبنيّة على وشاياتٍ تسمى عطف جرمي لا تستند إلى إثبات، إنما كلام سماسرة استفادوا من قانون كاشفي الفساد الذي يعفيهم من العقاب، فاعترفوا خلال التحقيقات الأولية بأنهم دفعوا رشوة للموظفين». على اعتبار أن «لا مواجهاتٍ حصلت بين الموقوفين والسماسرة لا في فرع المعلومات ولا لدى قاضي التحقيق الأوّل». وطلب وكلاء الدفاع إعادة التحقيق من جديد. وفي هذه الحالة كان أمام الهيئة الاتهامية إما إعادة التحقيق في حال وجدت «التصدي» جدياً ومشروعاً، وإما ترفض ويسلك الملف مساره المتوقّع نحو محكمة الجنايات. وهو السيناريو الذي كان أكثر ترجيحاً. إلا أن الاتهامية قبلت التصدّي وأخلت سبيل الجميع (أوقفوا أربعة أشهر) قبل انقضاء مدة الستة أشهر التي يفرضها القانون كمدّة توقيف احتياطي لمن يوصّف جرمه جناية من قبل النيابة العامة. ما يفسّر قانوناً أن «الاتهامية لديها نظرة مختلفة لقضية العقارية، وستعيد إجراء التحقيقات والاستجوابات من نقطة البداية، وتُصدِر في نهايتها قراراً جديداً يتغيّر معه الوصف الجرمي من جناية إلى جنحة».
وتزامن القرار المفاجئ، حتى لوكلاء الدفاع عن الموقوفين، مع بدء البحث في إطلاق دورة العمل من جديد في الدوائر الرسمية، بعدما علت صرخة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من تعطّل المرافق العامة وانخفاض إيرادات الدولة منها، في ظلّ إقفال دوائر النافعة والعقارية، وهما من أهم المرافق الرافدة للخزينة بالإيرادات. وهو ما قد يفسّر قرار الهيئة الاتهامية، وربما تكون وراءه رغبة سياسية في «ضبضبة» الملف.