وسط التخبّط السياسيّ الحاصل في إسرائيل، وعودة اليمين المتطرّف إلى الحكم بسياسات أكثر تطرّفاً، تواجه تل أبيب أزمة مالية خطرة جدّاً، وقد تنعكس على الوضعين النقديّ والاقتصاديّ، وتنسحب على السياسة والأمن. ظاهرة "تهريب الودائع" التي شهدها لبنان في العام 2019، تحط رحالها في تل أبيب، فماذا يجري؟
إن هذه الأزمة الماليّة تتمثّل بهروب رساميل من مصارف إسرائيليّة إلى الخارج. وفي تقرير جديد نشرته صحيفة "تايمس أوف إسرائيل"، يقدّر المصرفيّون أنّه تمّ تحويل نحو 4 مليارات دولار من إسرائيل إلى بنوك أجنبية في الأسابيع الثلاثة الماضية، وسط مخاوف متزايدة من ارتفاع منسوب التوتر في البلاد، عقب القرارات الحكوميّة التي تتدخّل في عمل القضاء.
وبحسب ما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مصادر مصرفية، فإن أغلب رؤوس الأموال المنقولة توجّهت نحو أوروبا والولايات المتّحدة، وتمّ نقلها في الأغلب من قبل الأفراد لا المؤسّسات، فيما أشارت معلومات أخرى إلى أن نحو 50 شركة، تنتمي بمعظمها إلى عالم التكنولوجيا، قامت بتحويل الأموال إلى الخارج في خلال الأسبوعين الماضيين.
شركات التكنولوجيا في الصدارة
في هذا الإطار، يُظهر تحقيق أجرته شركة "كالكاليست
" أن مديري عدد كبير من شركات التكنولوجيا بدأوا يسحبون بـ"هدوء" أرصدة شركاتهم النقدية من إسرائيل، إذ قرّرت 37 شركة سحب 780 مليون دولار من الحسابات المصرفيّة وتحويل الأموال إلى البنوك في الخارج.
ووفق التحقيق نفسه، قرّرت شركة إلكترونيّة قيمتها أكثر من مليارَي دولار سحب 110 ملايين دولار من إسرائيل، كما سحبت شركة إلكترونية أخرى، تقدّر قيمتها بأكثر من 2,5 مليار دولار، 45 مليون دولار. وإضافة إلى ذلك، قامت شركة "فينتش"، التي تزيد قيمتها عن 4 مليارات دولار، بتحويل 65 مليون دولار. كذلك أفيد بأن شركة برمجيّات تقدّر قيمتها بأكثر من 3 مليارات دولار ستحوّل 130 مليون دولار. إلى ذلك، فإنّ ثمّة شركات أخرى، لم يشملها التحقيق، تنوي سحب أموال لها من إسرائيل.
كذلك أعلن عدد من الشركات الإسرائيليّة، أو الشركات التي تزيد قيمتها عن مليار دولار، سحب أموال كبيرة من الحسابات المصرفيّة الإسرائيليّة ووضعها في الخارج بسبب ضغوط المستثمرين الأجانب المعنيّين، وفق تقرير "تايمس أوف إسرائيل".
تحذيرات اقتصادية: ضرر سيلحق بالاستثمارات
في الأسابيع الأخيرة، رجّحت شركات، تجمعات تجارية، رأسماليون، اقتصاديون، وسياسيون، أن تؤدّي خطة "الإصلاح القضائي" التي تطبّقها حكومة بنيامين نتنياهوإلى أن "تضرّ بمكانة إسرائيل كمركز مستقرّ للاستثمارات، إذ يُنظر إلى القضاء المستقلّ على أنه أساس للازدهار الاقتصادي"، برأي هؤلاء.
ووفق وسائل الإعلام العبريّة، فإن مسؤولي المصارف كشفوا عن أن تدفّق رأس المال للخارج يبدو في ازدياد، لكنّهم لم يقدّموا أرقاماً محدّدة، بالرغم من أنّ مصرف إسرائيل نفى حتى الآن "وجود تحرّكات غير عادية للأموال المنقولة إلى الخارج"، مشيراً إلى أن "البنك يراقب الوضع باستمرار".
في غضون ذلك، أكّد أوفير أنجل، رئيس مجلس إدارة شركة "أورين إسرائيل" للاستشارات المالية، المعلومات التي تحدّثت عن هروب رساميل من مصارف إسرائيلية، مقدّراً المبلغ الذي تمّ نقله في الأسابيع الأخيرة بما "بين 2 و4 مليارات دولار"، متوقّعاً ارتفاع المبلغ وخروج المزيد من الرساميل من البلاد إلى مصارف في دول أجنبيّة.
ووفق التقرير العبريّ نفسه المنشور في "تايمس أوف إسرائيل"، فإنّ استمرار حركة هروب الرساميل من إسرائيل قد يدفع الحكومة إلى تقييد حركة نقل الأموال إلى خارج البلاد، كما أن المصارف قد تضع سقوفاً على حركة العملات الأجنبية.
وكشف أنجل عن تقديم شركته الاستشارية "عشرات الاستفسارات أسبوعياً لأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة أو الكبيرة، من عائلة لديها مدّخرات نصف مليون شيكل (140 ألف دولار تقريباً) إلى عائلات تتحدّث عن تحويل عشرات ومئات الملايين إلى الخارج"، وهذا الواقع ليس سوى نتيجة الاضطرابات الحاصلة في الشارع.
الإسرائيليون لا يثقون بالحكومة: قيمة أموالنا ستنخفض
وفق شهادات إسرائيليين، قال أحد الأشخاص الذين حوّلوا أموالاً إلى خارج البلاد إنّ القرار "يعود إلى انعدام الثقة"، وتابع: "أنا لا أثقّ في هذه الحكومة. أنا لا أنتمي إلى اليسار أو اليمين. أنا إسرائيليّ، لكنني قلق من أن الإجراءات ستضرّ بشدّة بالاقتصاد والشيكل (العملة الإسرائيلية)؛ لذلك، ستكون قيمة أموالي أقلّ كثيراً في وقت قريب جداً. يُمكننا بالفعل رؤية هذا الاتجاه الآن".
وأضاف: "أسارع لتحويل جزء كبير من رأسمالي إلى حساب مصرفيّ أجنبيّ أحتفظ به في مكان آخر قبل الموافقة على الإصلاحات (القضائيّة) وبدء الانهيار الجليديّ".
وبحسب ما ورد أيضاً، فإن بعض الإسرائيليين الذين يمتلكون ما بين 5 الى 50 مليون دولار يلجأون إلى التقدّم بطلب للحصول على جنسية أجنبية من أجل حماية ثرواتهم عن طريق تحويل بعض رؤوس أموالهم إلى حسابات مصرفية في تلك البلدان التي يكتسبون جنسيتها.
وبالعودة إلى تحذيرات الخبراء من تبعات الإجراءات الحكومية المرتبطة بالقضاء، فقد حذّر مصرفيّون بارزون وزير المالية بتسلئيل سموتريتش من الأضرار المحتملة على الاقتصاد الناجمة عن تحركات الحكومة لتقليص السلطة القضائيّة.
في اجتماع "متوتر"، قال أعضاء من جمعية المصارف في إسرائيل لسموتريتش إنهم رأوا "بوادر مبكرة" تشي بأن "التشريع المزمع سيضرّ بالاقتصاد"، وحثوا الحكومة على تبني خطة "حلّ وسط"، اقترحها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، حسبما ذكرت وسائل الإعلام العبرية.
وفي السياق نفسه، ووفق أوري ليفين، الرئيس التنفيذي لأحد المصارف الإسرائيلية، فإن ثمّة "مؤشرات مالية سلبية، والشيكل يزداد ضعفاً، والمخاطر آخذة في الارتفاع ، وبورصة الأوراق المالية لدينا أسوأ من غيرها في جميع أنحاء العالم".
الحكومة تردّ: لا تداعيات للإصلاحات القضائية
من جهة أخرى، قلّل وزير الاقتصاد نير بركات من تداعيات الإجراءات القضائية على اقتصاد ومالية الدولة، وقال في حديث صحافي: "عندما أتحدث مع زملائي في جميع أنحاء العالم لا يتمّ ذكر هذه المسألة، ولا أشعر أنها تؤثر في الوضع، لأنّ المستثمرين من جميع أنحاء العالم مهتمون بالأعمال والأفكار والمنتجات، وطالما أن إسرائيل تستطيع توفير كل ذلك، فستظل رائدة".
وأوصى وزير الاقتصاد الإسرائيلي "بإبعاد السياسة عن الأمور الاقتصادية"؛ وإذ أقرّ بأنّ ثمّة "تحدّياً داخلياً"، أكّد أن "هناك حاجة إلى العمل بذكاء والفصل بين التحديات الاقتصادية والأخرى السياسية في إسرائيل".
وفي سياق متصل، اتهم نتنياهو منافسيه السياسيين بمحاولة الإضرار بالاقتصاد من خلال تنبؤاتهم بهروب المستثمرين وضعف الشيكل نتيجة مقترحات حكومته.
هل تواجه إسرائيل سيناريو مشابهاً للسيناريو في لبنان؟
مشاهد من الفوضى غير المسبوقة تشهدها إسرائيل، ولا تقتصر على الاقتصاد وقطاع المال فحسب؛ فهروب الرساميل إلى خارج البلاد يتزامن مع دخول الاحتجاجات الواسعة هناك أسبوعها السابع ضد الحكومة اليمينية الأكثر تطرفّاً منذ عقود، والتظاهرات آخذة في التأجج أكثر فأكثر، مع اقتراب إقرار الحكومة لتشريعاتٍ تحدُّ من قدرات القضاء، وتسمح للسياسة بالتدخّل في العمل القضائيّ.
ولا تتوقف أزمات إسرائيل على احتجاجات الشارع وتحويل الرساميل إلى الخارج، بل المشكلة جوهريّة، وتتمثّل في التشتّت السياسيّ والانقسام الحاصل الذي يستحكم أكثر فأكثر. فالائتلاف الحكوميّ اليمينيّ المتطرّف ليس سوى نتيجة للمشهد السياسي الفوضوي، فيما سياساته تأخذ الدولة العبرية إلى مزيد من الانقسام. وفي هذا السياق، من الضروري التذكير بأن إسرائيل شهدت 5 جولات انتخابية في السنوات الثلاث الماضية، بسبب التشتت السياسي المذكور.
انطلاقاً ممّا ذُكر، فإن المشهد مشابه لمشهد لبنان 2019، حينما كان الانقسام السياسي في أوجه، والتظاهرات تجتاح المناطق، فيما حركة الرساميل إلى الخارج كانت نشطة، لكن من الضروري الإشارة إلى فارق الاهتراء بين بيروت وتل أبيب؛ فمؤسسات لبنان كانت في حالة انهيار شبه تام، والفساد مستشرٍ منذ عقود، فيما الوضع أقلّ حدّةً في إسرائيل، من دون أن ننفي وجود فساد، في حين تقول تقارير صحافية إن الحكومات الأخيرة في إسرائيل تُصنّف في خانة الحكومات الأكثر فساداً في تاريخ الدولة العبريّة.
ويبقى الفارق الأهم بين وضعي بيروت وتل أبيب، أن الأولى ولأسباب سياسية شهدت توقف رساميل وودائع خليجية تحديداً عن إنعاش قطاعها المصرفي، ولا ننسى أن المساعدات الأميركية لاسرائيل تبقى الظهير القوي للدولة العبرية.
ستكون الأنظار متّجهة نحو تل أبيب في الأسابيع المقبلة، ونحو الإجراءات الحكوميّة التي سيلجأ إليها نتنياهو ووزراؤه، وما إذا كانت ستكون قادرة على تفادي تدحرج كرة الثلج وتجنّب مشاهد كارثية، أو أنها ستفشل، فتزيد حدّة الانقسام الإسرائيلي السياسي والشعبي، مما ينعكس انعداماً للاستقرار، الأمر الذي يدفع برؤوس الأموال والاستثمارات إلى الهرب.
ما هي الإجراءات القضائية التي يتخوّف منها الإسرائيليون؟
سيحدّ التشريع المزمع طرحه هذا الأسبوع، في حال سيره الى التنفيذ، من صلاحيات المحكمة العليا في إلغاء القوانين، وسيسمح للبرلمان بإعادة سنّ القوانين التي استبعدتها المحكمة،بالإضافة إلى منحه الحكومة السيطرة على تعيين القضاة، والوزراء تعيين المستشارين القانونيين لوزاراتهم.
وكتب يتسحاق زامير، المدعي العام السابق وقاضي المحكمة العليا، في مقال رأي نُشر في 11 شباط الحالي في صحيفة "هآرتس" الليبرالية اليومية: "الحكومة تدمّر الفصل بين السلطات في إسرائيل".
وقال بما أن البرلمان الإسرائيليّ يسيطر عليه الائتلاف الحاكم، الذي يتمتع بأغلبيّة المقاعد، فقد أدمجت السلطتان التنفيذية والتشريعية بالفعل.