كتب نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال سعادة الشامي
إن السجال الدائر اليوم حول سعر الصرف الذي يجب اعتماده لتحديد رسوم الاستيراد، أو ما يُعرف ب “الدولار الجمركي"، تشعَّب بشكل واسع النطاق ودخل حلبةَ الكباش السياسي الحاد، وكثرت التحليلات والتفسيرات التي جاءت بمعظمها معارضة لرفع "الدولار الجمركي". صدرت معظم هذه المواقف عن قطاعاتٍ وجِهاتٍ تعتقد أنها ستتضرر من هكذا زيادة ولكن من دون الأخذ بعين الاعتبار ما لاستمرار تطبيق سعر الصرف الرسمي من وقعٍ سلبي على إيرادات الموازنة والوضع المالي بشكل عام، ومن عواقب وخيمة على الوضع الاقتصادي بشكل أشمل. ثمة ضرورة ملحّة لتعديل سعر الصرف من أجل إعادة الانتظام إلى المالية العامة وتغطية نفقات القطاع العام وتأمين الخدمات الأساسية للمواطنين وإرساء الاستقرار الماكرو اقتصادي المطلوب لتحفيز النمو وخلق فرص عمل وتخفيض مستوى الفقر.
لِذا من الواجب مقاربة هذه المسألة بتجرّد وحصر النقاش في هذا الموضوع بالذات من دون محاولة ربطه بأمور أُخرى متشعبة وعميقة تحتاج معالجتها الى مزيدٍ من الإجراءات والوقت. من الطبيعي أن يرتبط قرار رفع سعر صرف "الدولار الجمركي" بتحسين الجباية ومكافحة التهرب الضريبي والّذين لن تظهر نتيجتهما فوراً، بل عبر مسارٍ طويل يجب العمل عليه بالتوازي، ولكن من دون جعل النتائج المرجوّة شروطاً مسبقة لتعديل سعر الصرف.
وفي هذا الخصوص، أجد من المهم توضيح الأمور التالية:
- إن معظم المعاملات في لبنان لا تتم على سعر الصرف الرسمي، بل على سعر صرف السوق باستثناء الضرائب والرسوم الجمركية التي تشكل السواد الأعظم من موارد الخزينة مما ينتج فجوةٌ شاسعة بين الإيرادات والنفقات. بالإضافة لذلك، فوجود أسعار صرف متعددة يفسح مجالاتٍ وفيرة للتلاعب ويخلق تشوهات كبيرة في الاقتصاد الوطني.
- في هذا الإطار، من المفضل ربط "الدولار الجمركي" بسعر الصيرفة والذي سيصبح السعر الرسمي الوحيد عندما تُلغى جميع أسعار الصرف الأخرى لتتحول منصة صيرفة إلى منصة فعلية لتلقي العرض والطلب على الدولار والعملات الأجنبية الأساسية الأخرى وذلك تبعاً لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أقرَّته الحكومة اللبنانية. فمن الضروري توحيد أسعار الصرف تمهيداً لاعتماد سعر صرف مَرِن يعكس الأساسيات الاقتصادية والمالية والنقدية. إن ربط "الدولار الجمركي" بسعر صرف المنصة سيؤدي الى تَحَرّكِهِ بشكل تلقائي ويُغني عن اللجوء دورياً الى نقاش وسجالات تؤدي الى ضياع المزيد من الوقت الذي نحن بأشد الحاجة اليه.
- أما إذا نتج عن مستوى الرسوم الجمركية المستوفاة ضررٌ بالاقتصاد و/أو بالفئات ذات الدخل المحدود، فيمكن عندها عبر السياسة الضريبية تعديل نسبة الضريبة من دون المسّ والتلاعب بسعر الصرف المعتمد. بمعنى آخر، من غير المسموح متابعة استعمال سعر الصرف كوسيلة – أثبتت فشلَها -- لتحقيق العدالة الاجتماعية. تتم معالجة الفروقات الاجتماعية أيضاً من خلال شبكات الأمان الاجتماعي وليس من خلال سعر الصرف كما حدث في الماضي. فمعاناة الناس القاتلة وهموم الحياة اليومية وصعوبة تامين أدنى مقومات الحياة الأساسية للغالبية العظمى من المواطنين يعالج من خلال سياسات إصلاحية تخفض نسبة التضخم وتحفز النمو وتخلق فرص عمل وليس باتباع سياسات آنية قد تكون مقبولة شعبياً ولكنها قد تزيد من حدة الأزمة في المستقبل.
- إنّ موازنة ٢٠٢٢ قد أُعِدَّت أصلاً على أساس سعر صرف ٢٠،٠٠٠ ل.ل. للدولار وهو السعر الذي كان سائداً في ذلك الوقت وعلى أساسه قُدِّرت الإيرادات والنفقات والتي تضمنت زيادة في الرواتب والأجور التي هَوَتْ إلى مستويات جد متدنية. لقد أدّى كل ذلك إلى تعطيل شبه كامل للخدمات العامة نظراً لتدني القدرة المعيشية لعاملي القطاع العام على اختلاف فئاتهم حتى وصل الأمر إلى عدم قدرة بعضهم الوصول إلى مراكز عملهم. وهذا قَلَّص بدوره من قدرة تحصيل إيرادات الدولة وفاقم من حدة الأزمة التي نعيشها اليوم. لقد أصبحت الحاجة ماسة لتصحيح الأجور في القطاع العام كما لزيادة إيرادات الدولة. أما المناداة باعتماد أسعار صرف أخرى، تارة ثمانية آلاف وطوراً عشرة آلاف ليرة للدولار الواحد أو غيرها من الأسعار فهي لا تعتمد على أي أسس أو معايير منطقية.
- يتغاضى البعض عن الأثر السلبي الّذي تخلّفه زيادة الأجور والنفقات الأخرى من دون إيجاد مصادر التمويل الملائمة على الموازنة والإطار المالي المتوسط الأجل (٢٠٢٣-٢٠٢٦) وعلى عجوزات الخزينة التي يجب أن تبقى ضمن حدودٍ معينة وهي التي أدّت إلى تراكم الدين العام وعدم القدرة على تسديده. إنّ سياسة تمويل عجز الموازنة من البنك المركزي عبر طبع العملة كما جرت العادة عبر سنين عديدة لم تعد مسموحة ولا ممكنة حسب برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي، وذلك لتجنب مزيد من التضخم وتدني سعر الصرف. لِذا عند مناقشة واعتماد السياسات المالية والنقدية وسياسة سعر الصرف، من المهم أن نُبقي التجارب السابقة نصبَ عُيوننا ونستفيد منها لنتدارك الأخطاء التي دفعت بالاقتصاد اللبناني نحو الهاوية.
- إن التخوف من انعكاس رفع "الدولار الجمركي" على الأسعار بشكل عام هو تخوف مشروع وإن يكن في اعتقادي مبالغاً فيه. إن معظم السلع والخدمات الأساسية هي معفية من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة، ولكن لا شك أن ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأخرى قد يؤثر بدوره على كل الأسعار وحتى الأساسية منها. ولكن هذه الزيادة، مهما بلغت، تبقى منخفضة بالنسبة لارتفاع الأجور المنوي اعتماده مما سيؤدي إلى تحسين القدرة الشرائية للعاملين في القطاع العام. أما القطاع الخاص فهو أكثر ليونة واستجابة للمتغيرات الاقتصادية، فقد عُدِّلت الأجور فيه بشكل مقبول نسبياً. أما فيما خص العاطلين عن العمل والفئات الفقيرة والمهمّشة، فتكون معالجة أوضاعهم من خلال شبكات الأمان الاجتماعي. وفي هذا الإطار، فإنّ الموارد الإضافية المتأتية من جرّاء زيادة "الدولار الجمركي" على السلع الكمالية والفاخرة التي تدفعها الفئات الأكثر يسراً، فبإمكانها المساهمة في مساعدة الشرائح الاجتماعية المهمشة.
- إن اعتماد أسعار صرف السوق، أو أقلّه في الوقت الحاضر سعر الصيرفة (الذي سيصبح سعر السوق) على الرسوم الجمركية سيخفض من حجم الاستيراد وقيمته وكذلك الطلب على الاحتياطات الأجنبية التي تتضاءل يوماً بعد يوم. وفي الموازاة، سيساعد هذا في تشجيع الصادرات اللبنانية والتي بدأت بالفعل بالتحسن من خلال الزيادة في تنافسيتها، ويزيد في الوقت نفسه الطلب على السلع المنتَجة محليا مما لذلك من آثار إيجابية على النمو وسوق العمل.
- إن اللجوء إلى سعر صرف مصطنع وبفرقٍ شاسع عن سعر صرف السوق لخدمة أهداف اجتماعية ما هو إلّا المضي بسياسة الدعم التي عانينا منها في الفترة السابقة وأدّت الى استنزاف الاحتياطات بالعملات الأجنبية. هذا النوع من الدعم العشوائي غير الموجه إلى الفئات الأكثر عوزاً يطال الجميع، وحتّى ليس بالتساوي إذ يستفيد منه المُقتدرون وكبار المستهلكين أكثر بأشواطٍ من الطبقات الفقيرة والوسطى. فهل من العدل أو المنطق أو السياسة السليمة في إطار وضع مالي متهاوٍ أن يُسدِّد البعض رسوماً جمركية على سعر صرف ١،٥٠٠ ل.ل. للدولار، مثلاً عند استيراد سيارة فاخرة تُقدَّر قيمتُها بعشرات آلاف الدولارات؟ كما أوَدُّ التحذير من اللجوء إلى اعتماد سعر صرف مُتَدرّج والذي سيخلق حتماً" الكثير من التشوهات والمضاربات والتخزين للاستفادة من ارتفاع سعر الصرف.
- وفي الأخير، وبما أنه لم يبقَ الكثير من الوقت في سنة ٢٠٢٢ فإنه من الأفضل إقرار الموازنة قريباً، وإن لم تكن مثلى برأي البعض، باعتماد سعر الصيرفة في تحديد الرسوم الجمركية والذي يجب أن يطبق في موازنة 2023. وفي المناسبة حان وقت الانصراف جدياً الى موازنة ٢٠٢٣ لإعدادها بشكل مدروس ومتقن ضمن إطار مالي متوسط الأجل وضمن المهل الدستورية لخدمة الأهداف الأساسية لخطة النهوض الاقتصادي.