10-05-2020
مقالات مختارة
مافيات
الملف التقني أخذ أبعاداً سياسية بامتياز. وجميع أركان السلطة السياسية يحترفون تسييس الملفات، تحقيقاً لغايات مالية. فحتى الحروب السياسية تخفي خلفها استفادة مالية خاصة. ومهما تفاقم السجال السياسي، يبقى المحور الأساس لقضية الفيول المغشوش، هو معرفة الجميع بأن الفيول ليس سليماً، ومع ذلك، جرى التستّر عليه.
وأبرز غش في الفيول، ظهر في بواخر الطاقة. أي في شركة كارادينيز التركية صاحبة البواخر، وبين اللبنانيين المستفيدين منها. وقد جرى التغافل عن الأمر إرضاءً لمافيات الفيول والسياسة.
نظام معالجة الفيول
لم تُصمَّم بواخر ومعامل انتاج الكهرباء لتستقبل الفيول من نوعية رديئة، وتعتريه الشوائب. فما يحمله الفيول الرديء من رواسب، يُتلِف الآلات الحديثة التي تُنتج الطاقة. ولأن تلك الآلات باتت قادرة على كشف الرواسب بصورة دقيقة، بفضل حساسيات متطورة لم تكن موجودة في الآلات القديمة، أصبح من السهل كشف الغش الذي دأبت على ارتكابه شركات الفيول، بدعم من القوى السياسية المستفيدة.
خوض غمار البحث في تحديد نقطة بداية تكوّن قضية الفيول المغشوش، يُشعّب النقاش ويفتح مسارات متعددة تخدم المتورّطين. لذلك، يصبح تضييق البحث، واجباً يخدم كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات.
ففي العام 2013 تعطّلت بواخر الطاقة نتيجة الفيول المغشوش الذي أضرّ بمولدات إنتاج الطاقة. لم تعترض الشركة التركية ولا وكيلها في لبنان سمير ضومط، ولا وزارة الطاقة. لم يُحاسب أحد الشركة التي أتت بالفيول غير المطابق للمواصفات. أُقفِلَ الملف، واستمرت البواخر باستقبال الفيول المغشوش، ولم تطالب بتغيير نوعيته، لكنّها ركّبت نظاماً لمعالجته وتنقيته. وارتضى وزراء الطاقة بذلك.
فما هي الأهداف، وكيف ترضى شركة ما، بتكبّد أكلاف إضافية لمعالجة الفيول، واحتمال المخاطر الناتجة عن الفيول المغشوش، بدل المطالبة بمُنتَج نوعيته أفضل؟! وهذا أقل حقوق الشركة. ولماذا سكت وكيل الشركة التركية، ولماذا تغاضى وزراء الطاقة عن الأمر؟!
توصيات التفتيش المركزي
ليس في السكوت من قطبة مخفية. فمصلحة أركان ملف الطاقة ظاهرة في آلية تسيير مرفق الكهرباء، سواء في مؤسسة كهرباء لبنان أو معامل انتاج الكهرباء، أو بواخر الطاقة. ومن لديه وجهة نظر أو معطيات تصب في صالح أركان هذا الملف، وتنفي مسؤوليتهم، فليراجع توصيات التفتيش المركزي التي تطلب استبدال نوعية الفيول المستَخدَم، بأخرى أفضل.
مع الإشارة إلى أن وزراء الطاقة المتعاقبين، أقله منذ العام 2013، أغفلوا عن قصد توصيات التفتيش التي تقضي بـ"تعديل مواصفات الفيول أويل المستخدم، واستبداله بنوعية Iso 8217. والعمل على اتخاذ الإجراءات الوقائية الآيلة إلى تأمين سلامة تركيب وتجهيز وتشغيل المحركات العكسية في معملي الذوق والجية، الجاري تنفيذهما تلافياً لأية معوقات أو أضرار محتملة".
أتت هذه التوصية بعد تحقيقات بيّنَت أن الشركة التركية أرسلت عينة من الفيول المشكوك بنوعيته، الى مختبرات "فيسوا" Viswa العالمية لتحليلها. وحذرت Viswa من أن نسبة الحديد في العينة، تؤدي إلى أضرار في البخاخات. وأشارت إلى ارتفاع مستويات الألمنيوم والسيليكون، ما يضر بأجهزة تنقية وتصفية الفيول نفسها. أي أن البواخر خاطرت بتضرر أجهزة التنقية، لقاء الإبقاء على استعمال نوعية الفيول نفسها. وأكد تقرير التفتيش عِلم مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة بالنتائج.
تقاذف المسؤوليات
التقارير واضحة. ومع ذلك، تجاهلها وزراء الطاقة التابعون للتيار العوني، وأصروا ويصرون على استكمال مرادهم السياسي لتغيير النمط السائد في عملية استيراد الفيول وأركانها، تحقيقاً لوضع يدهم على هذا الملف كاملاً. هذا ما يؤكده عدم اكتفائهم بنتائج تحقيقات المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم، التي خلصت إلى عدم استلام شحنة الفيول الأخيرة. أي أن هدر المال العام لم يتحقق. وكان بالامكان إنهاء القضية عند هذا الحد، وفتح العيون على الشحنات القادمة مستقبلاً. لكن الوزراء العونيين اتخذوا من القضية الراهنة حجة للتخلص من مدير عام منشآت النفط سركيس حليس، بوصفه خصماً لهم في السياسة وفي المحاصصة.
ولبلوغ هدفهم، عرج الوزراء على إدارة المناقصات، لتحميلها جزءاً من المسؤولية عن الفيول المغشوش. غير أن مدير عام إدارة المناقصات جان علية، أوضح بالأدلة أنه في عامي 2018 - 2019 أرسلت وزارة الطاقة ملفاً يتعلق بتلزيم مناقصتين عموميتين لشراء كمية من الفيول أويل والغاز، فردت إدارة المناقصات بأن دفتر الشروط هو على قياس مؤسسة البترول الكويتية وشركة سوناتراك، وأن هذا الأمر يحد من المنافسة.
وأكد عليه أنه بتاريخ 29-10-2018، ردت إدارة المناقصات إلى وزارة الطاقة، دفتر شروط كان ورد إلى الإدارة لطلب إبداء الرأي. الادارة استعانت بخبير من الاتحاد الأوروبي، ودرست دفتر الشروط، وبيّنت شوائب خلق احتكارات والحد من المنافسة. وفي 18-11-2019، ورد دفتر الشروط من الوزارة المعنية، بصيغة يتجاهل الملاحظات المتعلقة بالاحتكارات والشروط التعجيزية والخلل في التوازن المالي للعقد. لذلك أعادت الإدارة دفتر الشروط إلى الوزارة المعنية لإجراء المقتضى. لكن الوزارة لم ترسل دفتر الشروط مجدداً.
ولم يوفّر العونيون حزب الله، بصورة غير مباشرة، من خلال توجيه تساؤلاتهم إلى آلية توقيع العقد مع سوناتراك، والذي وقّعه وزير الطاقة آنذاك، محمد فنيش. وهذا استدعى رداً غير مباشر على العونيين، عبر تأكيد فنيش أن العقد في حينه كان أفضل ما يمكن للدولة الحصول عليه، مشيراً إلى أنه "في هذه الفترة (2005) التي توليت فيها تطبيق العقد، لا أحد استطاع تسجيل أي صفقة أو سمسمرة". ودعا فنيش إلى محاسبة مرتكب فضيحة الفيول المغشوش ومقاضاته. وفي هذا تلميح إلى مسؤولية الوزراء العونيين، وبالشراكة مع سمير ضومط الذي يمثل تيار المستقبل، إضافة إلى الشركات المستوردة للفيول.
ما كشفه مدير عام إدارة المناقصات هو بمثابة إخبار. وهو في الجوهر، تأكيد على تجاهل وزراء الطاقة حقيقة الفيول المغشوش. وتلك الحقيقة برهنتها بواخر الطاقة التي تحملت أكلافاً إضافية لتنقية الفيول، ولم يكن ذلك مطلوباً منها. أما فنيش وحزب الله عموماً، فمسؤوليتهما مضاعفة. فهُم وقّعوا العقد، ولم يمارسوا دورهم الرقابي، لا داخل مجلس النواب ولا في مجلس الوزراء، ولا شعبياً، ولا من خلال قوّتهم السياسية وتأثيرهم. وكل ذلك "احتراماً" لتحالفهم مع التيار العوني، وإن جاء التحالف على حساب المصلحة العامة. وأمام علم الجميع بالفيول المغشوش، هل يتحرك القاضي ابراهيم مجدداً، ويعيد السجال إلى مساره القانوني لا السياسي؟
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار