19-10-2018
آفــاق
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
شاعت ظاهرة فرار المُقتَطَعين من اقطاعييّهم من شدّة جَورهمِ عليهم الى المدن مقرّ تمركز حركة البرجوازيين الذين تقربوا في البدء من الفلاحين الفقراء تارةً بعروضٍ معيشيةٍ مُغريةٍ وتارةٍ أخرى بالإكثار امامهم من الوعود الاجتماعية العادلة كونهم رأوا بهم طاقةً جديدة مناسبةً لتَسيّر أعمالهم.
ولَم تطل حالة التحالف طويلاً حتى انقلب الاسياد الجُدُد على عمّالهم الحّديثيّ العهد وقاموا باستعبادهم اضعافاً مضاعفةً حتى انه يمكننا القول انهم أي البرجوازييّن كانوا أكثر بطشاً بهم من سادتهم الاوائل.
لا بدّ من الإشارة هنا الى ان الاقطاعية الأوروبية هي الأقرب الينا ولقد كانت المدخل الى مثيلتها المتجددة بربوع منطقتنا.
والجدير بالذكر ان هيكلية الاقطاعية ما قبل العربية والتي تضمّنت الأيوبيين والمملوكيين والفاطميين والقوقاز والاكراد و التركمان (وهم من جنسيات غير تركيّة ان صَحّ التعبير وان نطقت بالتركية) وكل اتباع النواحي التي صبّت في خدمة الجِهّةِ الغالبةِ في زمانها لم تكن لتمارس التوريث الاقطاعي الذي اتانا لاحقا من خواص هيكلية الاقطاعية الأوروبية من مختلف اُمَمِها واما قبائل الفلاحين في لبنان وسوريا وفلسطين فكانت تعرف "بالعشائر".
يدرك كل من لديه معرفة بتاريخ دول المشرق مدى تغلغل الإقطاع الاجتماعي والسياسي، ورسوخه في ثنايا الحياة الاجتماعية. ان الإقطاع السياسي المتوارث، والإقطاع الطائفي، المولّد لانحرافات في التفكير والسلوك، والإقطاع المالي، الذي يفسد كل شئ بات كالمرض المستعصي . ولعلّ نظرة سريعة على أسماء بعض السياسيين والزعماء ورجالات الحكم والدولة في بعض دول المنطقة تؤكد أن المواقع السياسية المتقدمة منحصرة تقريباً في بضعة أسر، تحتكر زعامة الطوائف، وتمثيلها، وتتوارث المواقع السياسية، وتتبوأ الصدارة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. باختصار شديد هي تحتكر السلطة والثروة، كما أنها مستعدة للتضحية بأشياء كثيرة، في سبيل أن لا تخسر ما حصّلت عليه من مكاسب، ومن مكانة تاريخية، وامتيازات، توارثها الأحفاد عن الآباء والأجداد.
ولعل الجدل حول مسألة الاقطاع السياسي ليس جديداً، وفكرة مقاومة الإقطاع السياسي والديني، يمكن متابعتها في التاريخ الأوروبي. فقد عرفت أوروبا العصور الوسطى، النظام الإقطاعي بتجلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وجوهر هذا النظام هو علاقة التبعية، التي تربط التابع بالسيد، والمرتكرة على منظومة أعراف بالية عفى عليها الزمن، ومجموعة طقوس خاصة، حوّلت المجتمع إلى بنيان هرمي، قائم على فكرة "تبعية" الفقراء للأغنياء، والضعفاء للأقوياء، لما يوفّره السيد الإقطاعي لأتباعه من حماية وشعور بالأمان. وبمرور الوقت، أفرز النظام الإقطاعي أسراً تحتكر الثروة والسلطة، وتتوارث المراكز الحيوية.
لقد شكّل النظام الإقطاعي مرحلة في تاريخ تطوّر البشرية وبحسب علماء الاقتصاد السياسي، كانت ضرورية للانتقال إلى المرحلة الرأسمالية. المهم في الموضوع أن أوروبا استطاعت التخلّص من النظام الإقطاعي، وتمكّنت من الانتقال عبر عصر النهضة، إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي، وما أفرزه من آليات جديدة، تعيد صياغة المجتمعات، وتضع قوانين جديدة ومنظومات قيم تنظّم علاقات الناس، لكنها في حقيقة الأمر لم تبتعد كثيراً عن مفهوم التبعية وهذا ما يستغربه البعض بالرغم من الانتقال إلى ما يسمى "المجتمع المدني" الحديث.
في الحقيقة كرّس الانتقال إلى المجتمع الرأسمالي الحديث الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، ولم يلغ المنظومة الإقطاعية، وإنما أعاد إنتاجها تحت مسميات جديدة. ولم تندثر آليات "التبعية"، بل راحت تتعمق وتزيد وتتخذ اشكالا مختلفة كما لم تنته (نظريات) الهيمنة والنفوذ، ولم تنقرض موجبات ومهيئات إنتاج ما يمكن تسميته حالة "القابلية التبعية"، وهو ما نجده في منظومة اقتصاد السوق من طحن للفقراء ، والتمادي في تهميشهم، لحساب طبقة الرأسماليين!
بالتأكيد إن الظاهرة ليست حكراً على مجتمعاتنا المشرقية، ولسنا بحاجة إلى ذكاء شديد، لتبيّن مدى تغلغلها في المجتمعات الرأسمالية الصناعية المتقدمة. وفي الديمقراطيات الغربية المعاصرة هناك عائلات "إقطاعية"، تتوارث المواقع السياسية، وإن كان عبر صناديق الاقتراع، كما تتوارث الشركات العملاقة عابرة القارات. وهكذا تتبدى سطوة الديمقراطية الغربية، أسيرة سطوة رأس المال.
ان المطالبة بمجتمع علماني مدني بديلاً للطائفية السياسية هو الوحيد الذي يستطيع القضاء على هذا المرض على الرغم من تشكّيك البعض في مصداقية هذا الطرح .
أخبار ذات صلة
آفــاق
الإقطاع بين الحاضر والأمس