مباشر

عاجل

راديو اينوما

الخروج إلى الدولة… ترفٌ أم حاجةٌ وجوديّة؟

29-10-2025

مقالات مختارة

انطوان العويط

كاتب لبناني

None

 

أنطوان العويط

يقف قارئُ الوطن أمامَ مآسيه الراهنة وأحواله المأزومة برهْبةٍ ووقارٍ بالِغَيْن.
منذ عقود، وبلدنا عالق في حلقةٍ مفرغة، تحت وطأة العوامل الإقليميّة من خارج، والعصبيّات المذهبيّة والقبليّة من داخل، والارتهان للخارج، وعجز الدولة البنيويّ عن ممارسة جوهر دورها وعيشها لذاتها بالكامل، بما يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، فرض سيادتها واحتكار السلاح وإنفاذ سلطة القانون.
تلك العِللُ التي نخرت جسد الوطن أنجبت نكباتٍ متلاحقة، ولا يلوح في الأفق القريب ما يُنبئ بانفراجٍ وشيك، رغم الومضات الإيجابيّة التي رافقت إعادة تشكيل السلطة، وما اتّخذته الحكومة من قراراتٍ وُصفت بالتاريخيّة، وما تشهده بيروت حاليًا من زخم دبلوماسيّ  يندرج في إطار محاولةٍ دوليّةٍ وعربيّةٍ لتجنّب الانزلاق نحو تدهورٍ ميدانيٍّ واسع، ولتهيئة الظروف الملائمة لاستكمال خطّة حصر السلاح وولوج مفاوضاتٍ حاسمةٍ تُعيد للبنان موقعه ودوره، وتُثبّت حقّه في مطالبه السياديّة.
غير أنّ الرهان يبقى على أن تُدار هذه المرحلةُ الدقيقة بعقلٍ وطنيٍّ راجح، يُجنّب البلاد شططَ المغامرات وعبثيّة الحسابات، ويجعل من الخروج إلى الدولة فعلَ إنقاذٍ لا ترفًا، ضمن مسار قيام الجمهوريّة المنشودة.
على هذا الأساس، وفي حال سلكت الأمورُ المنحى المُرتجى، يبرز السؤال الجوهريّ: متى يحين استحقاقُ الحلم بدولةٍ مدنيّةٍ تُبنى على وعيٍ عاقلٍ بالوقائع، وتقوم على التخلّي الطوعيّ عن الولاءات والانتماءات الضيّقة؟
ذلك يقتضي أن تُسلّم الطوائفُ بأنّ فلسفة الدولة هي الإطارُ الوحيد القادر على احتضان هواجسها وضمان مصالحها، بعيدًا عن منطق الاستقواء أو الغلبة أو الاضطهاد. عندها وحده يمكن للبنانيّين أن يتحرّروا من أثقال التاريخ، ويصطفوا بالعقل ما يقي الأجيال المقبلة تكرارَ المحن.
المشكلة الجوهريّة تكمن في أنّنا لم ننجح بعد في توليد الشروط الذاتيّة والموضوعيّة لبناء دولة حديثة. ومن دون الاعتراف بهذا القصور المنهجيّ، نظلّ كمن يحارب العدم بالعدم.
من هنا، يبدو مؤسفًا هذا الانغماس المَرَضي في مهاتراتٍ عقيمة، أو التلهّي بمصطلحاتٍ واهية، في شؤون بديهيّة من مثل "ميثاقيّةٍ" مشلَّعةٍ يفسّرها كلٌّ على هواه، و"عيشٍ واحدٍ" لم يتحوّل يومًا إلى شراكةٍ حقيقيّة صافية تُنتج تعدّديّةً خلاّقة في إدارة الحكم، مرورًا ب"النزاع" القائم حول حقّ المنتشر في الاقتراع لنوّابه الـ128 من عدمه(؟!)...
المطلوب أوّلًا وعي العطب والاعتراف به، ثم التواضع أمامه، والتفكير الجادّ في سبل الخروج منه. وإذا كان ثمّة خشية حقيقيّة من تفاقم التداعي، وحرص لدى المجتمعين العربيّ والدوليّ على ألّا يذوب لبنان في دوامة الموت السريريّ وما يرافقه من توتّر أمنيّ وتحلّل أخلاقيّ وثقافيّ... وكيانيّ، فإنّ الحاجة ملحّة إلى حلول غير تقليديّة. فالمقاربات المتداولة لم تُثبت عجزها فحسب، بل اكتفت بتسيير شؤون يوميّة، دون النفاذ إلى عمق الإشكاليّة. 
لذلك، نحن اليوم أمام حاجةٍ ملحّة إلى مبادرةٍ خلاّقة تحمي لبنان من الاستنزاف والانقسام، وتخرجه من دوّامة المسارات المستهلكة. وفي هذا الإطار، لماذا لا يُطرَح بجدّيةٍ ومسؤوليّة،  قيامُ دورٍ لبنانيّ - عربيّ - دوليّ، يُضاف إليه البعدُ الفاتيكانيّ في ضوء زيارة الحبر الأعظم، يتكامل في ما بينه لتأمين مظلّة رعايةٍ أخلاقيّة وسياسيّة تساعد اللبنانيين على إعادة ترتيب بيتهم الداخليّ. مبادرةٌ تستند إلى آليّةٍ سلميّةٍ، وبموافقةٍ وطنيّةٍ واسعة، هدفها التخفيف من الضغوط المتراكمة، وصون الاستقرار، وفتح الطريق أمام تسويةٍ تضع لبنان مجدّدًا على خريطة الدولة القادرة والعادلة.
جوهر هذه المقاربة أن يصبح لبنان بلدًا قادرًا على استعادة حياده ورفع مستوى سيادته الفعليّة، بعيدًا عن صراعات المحاور ومطامع الخارج، وأن يبني دولته على قواعد حديثة في كلّ مفاصلها. من تطوير النظام وآليّة اتّخاذ القرار، وصولًا إلى صياغة أفضل المساحات الدستوريّة التي تتيح للجماعات أن تعيش بحرّية، وفي الوقت نفسه بانسجام وتفاعل. دولة مدنيّة حاضنة للتنوّع، هوّيتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة واضحة وهادفة، وقانونها الانتخابيّ عصريّ بمجلسيْ نوّاب وشيوخ، فيما تمتدّ اللامركزيّة إلى أوسع أفق ممكن، لتفتح الطريق أمام حاضر أفضل وغد مشرق ومستقبل زاهر.
السيادة الحقيقيّة في النتيجة لا تُصان بشعارات جوفاء، بل بدولة قوّية وعادلة. فأيّ معنى لسيادةٍ لا تحمي مواطنًا، ولا تصون اقتصادًا، ولا تُطعم جائعًا، ولا تُعلّم طفلًا، وتعجز عن جمع نفاياتها أو إنارة بيوتها أو شفاء مرضاها أو تأمين عمل لشبابها؟ إنّها سيادة وهميّة، وقناع نخفي وراءه فشلنا وتفكّكنا.
كفانا غرقًا في أوهام دفن الرؤوس في الرمال. التاريخ لا يرحم من يضيّع الإمكانيّات النادرة، ولا يكافئ من يقامر بالوقت انتظارًا لمعجزة لا تأتي. اليوم نقف أمام فرصة قد لا تتكرّر، وإن أشرقت عليها ومضة أمل، فلن يكون مردّها إلى تقلّبات إقليميّة أو دوليّة آنيّة أو عابرة، بل إلى وعينا نحن بخطورة إعادة إنتاج الأخطاء القاتلة ذاتها، وهي تتكرّر أمام أعيننا بلا هوادة.
الخروج إلى الدولة ليس ترفًا ولا مجرّد شعار، بل هو حاجة وجوديّة تمسّ حياة كلّ لبنانيّ. 
الطريق طويل، لكنّه ليس مستحيلاً لمن يمتلك العزيمة والإرادة. قد تكون الكلفة باهظة، وقد تتطلّب صدمات مؤلمة، لكنّ الاستمرار في الانهيار سيكون أثقل وطأة وأغلى ثمناً. 
في النهاية، المستقبل ليس قدرًا محتومًا، بل يظلّ ملكًا لأولئك الذين يحلمون ويعيشون ويصنعون الأمل والحرّية بأيديهم.

services
متجرك الإلكتروني في أقل من عشرة أيام!

انطلق من حيث أنت واجعل العالم حدود تجارتك الإلكترونية…

اتصل بنا الآن لنبني متجرك الإلكتروني بأفضل الشروط المثالية التي طورتها شركة أوسيتكوم؛ أمنًا، سعرًا، وسرعة.
اتصل بنا

This website is powered by NewsYa, a News and Media
Publishing Solution By OSITCOM

Copyrights © 2023 All Rights Reserved.