20-05-2024
صحف
|
الأخبار
غسان سعود
غسان سعود
كان الاجتماع الأميركيّ - الإيراني غير المباشر الأخير محدّداً في 8 تشرين الأول - أكتوبر 2023 في سلطنة عمان، إلا أن تطورات اليوم السابق ألغته في الدقائق الأخيرة، قبل أن يستأنف الطرفان اجتماعاتهما الأسبوع الماضي. ورغم التزام الطرفين بإعلان عداء أحدهما للآخر، إلا أن التواصل غير المباشر والمكثّف بينهما لم ينقطع يوماً خلال أشهر الحرب الثمانية الماضية، ولا سيما بعد استهداف القنصلية الإيرانية وإعلان الإيرانيين نيتهم الرد. وفيما كانت سلطنة عمان وقطر تلعبان الدور الرئيسي في نقل الرسائل، كانت بيروت المسرح الرئيسي لنقلها. ومع الدور القيادي المتقدّم للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في المحور، وعكس الحزب وعياً متقدّماً بأهمية التركيز على أولوية وقف الحرب على غزة، إذ كانت جميع الرسائل ولا تزال تركّز على هذا الهدف، لا العكس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مُسيّرة يمنية كادت تصيب مدمّرة أميركية في البحر الأحمر قبل بضعة أيام، قبل أن تنعطف عنها، لأن الضغط لوقف الحرب شيء وتوسيعها شيء آخر. وهو ما بدأت الدبلوماسية الأميركية والأوروبية تفهمه، إذ لم يعد الدبلوماسيون الأجانب الذين يذهبون ويعودون ينقلون التهديدات.
ركّز الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في اتصالاته على حصر جبهات الإسناد بالضرب ضد العدو الإسرائيلي فقط، وعدم التوسع ضد أي دولة تستضيف قواعد أميركية. وترك هذا الجهد أثره الإيجابي عند دول الخليج عموماً والإمارات العربية المتحدة خصوصاً، كون قيادتها عبّرت عن مخاوف من تعرّضها لضربات انتقامية على خلفية الحرب على غزة. لكنّ أداء الحزب الميداني في الشهرين الماضيين كان له أثره الهائل لدى القيادة الإسرائيلية أيضاً، وفق ما عبّر عنه وزير حرب العدو يؤاف غالانت أخيراً، بقوله إن الأولوية هي لإعادة المستوطنين إلى منازلهم في مستعمرات الشمال، لكنه أشار إلى أن ذلك يجب أن يحصل بموجب «اتفاق» لأن «للحرب ثمناً نفضّل تجنبه».
السياق العام له معطياته التي يمكن عرضها وفق تسلسل واضح:
أولاً، الردع هو أن يهاب خصمك الاعتداء عليك لخشيته من ردّة فعلك؛ وقد كان توازن الردع قائماً على مبدأ عدم اعتداء كل من إسرائيل والحزب على الآخر لخشية كل منهما من ردة فعل الآخر. لكن، منذ عملية «طوفان الأقصى»، قال الحزب بوضوح إنه لا يخشى ردة الفعل الإسرائيلية، فيما استجدَت إسرائيل في المقابل التدخلات الدولية مع الحزب وقال وزير دفاعها أخيراً إن للحرب ثمناً من الأفضل تجنّبه.
ثانياً، رسم الحزب نطاق المعركة حين حدّد جغرافيتها بعمق 7 كلم مع تبادل خروقات عسكرية في العمقين.
ثالثاً، مقابل تهجير العدو القرى اللبنانية المتاخمة للحدود، هجّرت المقاومة سكان المستوطنات الإسرائيلية المتاخمة للحدود للمرة الأولى في تاريخ الصراع اللبناني – الإسرائيلي. ومقابل تخبط المستوطنين النازحين اجتماعياً وتربوياً وسكنياً وصخبهم الإعلامي وتحوّلهم إلى عامل ضغط كبير على الحكومة الإسرائيلية، سجّل حزب الله تقدّماً كبيراً على مستوى الإحاطة بالنازحين وتأمين البدائل اللازمة بما يحفظ كرامتهم كاملة، وطبّق بنجاح خطط الإخلاء والإيواء في هذه المواجهة، فيما تترك إسرائيل مستوطنيها دون هذه وتلك. علماً أن معظم سكان المستوطنات المتاخمة للبنان يعملون في القطاع الزراعي ومصالح تجارية محلية، ولا يملكون قدرات مالية لتحمّل تداعيات النزوح. كذلك أنجز الحزب، بعيداً عن الجعجعة الإعلامية، خطط العودة وإعادة الإعمار السريعة في اليوم التالي لوقف إطلاق النار، فيما لا يملك الإسرائيلي بعد أي تصوّر لظروف اليوم التالي.
رابعاً، رغم تفوق التكنولوجيا الإسرائيلية - الأميركية من الأقمار الاصطناعية إلى أحدث كاميرات المراقبة، مروراً بالطائرات التي لا تفارق سماء الجنوب، فقد حافظت المقاومة على قدرة العمل في قرى الحافة. كما حافظت على قدراتها الدفاعية والهجومية وتقنيات الرصد. وقد فاجأ الحزب إسرائيل في المواجهة القائمة بإضافة ميدان منافسة جديد يطلق عليه «جنرالات» الحزب وصف «السيطرة المعلوماتية». فقد نجحت المقاومة، عبر قدرات تكنولوجية لا تزال مجهولة بالكامل للإسرائيليين والأميركيين، في رصد غالبية تحركات الجيش الإسرائيلي بدقّة في منطقة النزاع، في الخيم والسهول والحقول وداخل الثكنات وفي منازل المستوطنين والسيارات المدنية، فيما يعجز الجيش الإسرائيلي رغم قدراته التكنولوجية رغم كل ما طوّره من كاميرات استشعار وغيرها، عن منع المقاومة من تنفيذ العمليات انطلاقاً من منطقة النزاع. وهو إنجاز ما كان ليحصل لولا استهداف الحزب المتواصل للأعمدة رغم «التنكيت» على مواقع التواصل الاجتماعي وتطويره وسائل رصد تتغلغل في العمق الإسرائيلي، من دون أي قدرة للإسرائيليين على كشفها أو تعطيلها.
خامساً، نقلت «يديعوت أحرونوت» عن جنرال إسرائيلي رفيع، أن حزب الله يحتاج إلى نحو نصف ساعة لاستهداف الجنود الإسرائيليين بعد تحديد أماكنهم، ولهذا ترجمة عملياتية فيها: ترصد مجموعة ميدانية هدفاً ما، تخابر آمريها الذين يبلغون القيادة العسكرية بتفاصيل الهدف. وعندها تختار غرفة العمليات الوحدة الهجومية الأقرب أو الأقدر (صواريخ، قناصة، مُسيّرات انقضاضية أو غيرها)، ويُطلب منها تنفيذ العملية. كل ذلك خلال أقل من نصف ساعة فقط. وبالتالي فإن اتصال وحدات الحزب، بعضها ببعض، وآليات اتخاذ القرار تكاد تكون من الأسرع في التشكيلات العسكرية التقليدية. ومع كل ما لذلك من أهمية عسكرية، فقد سبق لجيوش كبرى في العالم أن خسرت فرصاً انقضاضية ثمينة لأن آليات اتخاذ القرارات تطلّبت وقتاً طويلاً، علماً أن الحزب قادر مستقبلاً على ربط وحدات الرصد بوحدات هجومية معينة في حال أراد تقليص المهلة الزمنية بين الرصد والاستهداف. ويُذكر هنا أن إسقاط منطاد المراقبة التكنولوجي كان متاحاً منذ لحظة إطلاقه، لكنّ أمر إسقاطه انتظر كل هذه الأسابيع لضمان سقوطه في أرض لبنانية بحيث لا يمكن لفرق التدخل السريع الإسرائيلية الوصول إليه، بموازاة تحصين قدرته على إصابة غرفة العمليات الخاصة بالمنطاد بما يضمن عجز الإسرائيليين عن إفراغه من المعلومات المخزّنة فيه.
سادساً، في حرب تموز عام 2006، نجح الحزب مرة واحدة فقط في تبديل تكتيكاته العسكرية جنوب الليطاني، فيما قدّم جنرالات الحزب استعراضاً حقيقياً كاملاً أمام الجنرالات الإسرائيليين ونظرائهم الأميركيين والألمان والبريطانيين والفرنسيين (وحتى الروس والإيرانيين وكل من يتابع حرب الجنوب) حين بدّلوا في سبعة أشهر سبعة تكتيكات ميدانية، أو ما يصفه البعض بالاستراتيجيات العسكرية، مع كل ما يستوجبه ذلك من تغييرات لوجستية تشمل الضباط والعناصر والتكنولوجيا والأسلحة. وإذا كان الإسرائيليّ يعتقد في 7 أكتوبر أن مشكلته في الجنوب اللبناني هي انتشار قوة الرضوان جنوب الليطاني مثلاً، فقد أثبت له الحزب خلال الأشهر السبعة الماضية أن هذا مجرد تفصيل في مشهد أكثر تعقيداً بكثير. فقد نام جنرالات العدو على «قوة الرضوان» واستفاقوا على أمر ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وسابع، حتى باتوا يقولون اليوم إن مشكلتهم مع «الرضوان» أصغر من غيرها بعدما ظنوا لسنوات أنها مشكلتهم الوحيدة جنوب الليطاني. وهو ما يفسر تراجع الكلام الإسرائيلي عن طلب سحب قوة الرضوان كشرط أساسي لأي حل مستقبلي.
سابعاً، في ردّه على دعوة وزير المال الإسرائيلي إلى احتلال لبنان، سأل وزير الحرب الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان أي قوات يمكن أن تفعل ذلك: جنود الاحتياط الذين مضى على وجودهم في الخدمة لأكثر من سبعة أشهر، أو الجنود النظاميون الذين لم يزوروا منازلهم منذ بداية الحرب؟ في وقت يعاني الجيش الإسرائيلي ما يعانيه على جبهتين أساسيتين، يعلم كل من يتابع حزب الله عن قرب، وخصوصاً أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والعالمية، أن إسرائيل تستنفر قواتها منذ أكثر من مئتي يوم دون انقطاع واحد، فيما الحزب لم يستنفر قواته في المقابل ولو ليوم واحد، وهو لا يزال يعمل وفق مبدأ «إسناد» لا «حرب»، يحرك فرقة قتالية لبضعة أسابيع ثم يريحها لتحل أخرى مكانها، ثم ثالثة ورابعة دون انقطاع. تكفي الإشارة هنا إلى ما يعرفه كثيرون بأن بعض من استشهدوا كانوا قبل ساعات قليلة في منازلهم أو مع أصدقائهم.
ثامناً، كشف العدو خلال الأسابيع الأولى للحرب، كل ما طوّره من تكنولوجيا رصد واستهداف خلال العقدين الماضيين، لكنّ الحزب ضبط نفسه ولم يكشف عن شيء مما طوّره، مبتعداً عن الشعبوية ومتطلباتها. وهو حين يقصف العدو بصاروخ بركان أو الصواريخ المزوّدة بكاميرات أو الصواريخ الانحنائية أو الدقيقة أو يسقط مُسيّرة أو يطلق أخرى، فإنه يستخدم ما تعرف إسرائيل بوجوده وما سبق له أن استعرضه خلال مناورات سابقة أمام الكاميرات. وهو حتى على هذا المستوى، لم يستخدم أكثر من عشرين في المئة مما تعرف إسرائيل بوجوده، محتفظاً لنفسه بأفضلية استخدام الأسلحة النوعية الأخرى التي لا تعرف إسرائيل بوجودها. وعلى هذا المستوى الخاص بالتوقيت والفعل وردود الفعل، يمكن القول إن حزب الله تكبّد خسائر كان في وسعه تجنبها، تماماً كما كان بإمكانه توجيه ضربات نوعية أكثر إيلاماً لإسرائيل لكن تكتيكه الأساسي كان عدم الاستدراج إلى الكشف عما لا يريد كشفه إلا وفق توقيته هو، وهي استراتيجية تثبت نجاعتها اليوم حيث يلعب الوقت لمصلحة الحزب الذي خفّض خسائره البشرية بعد إيجاد الحلول الملائمة لآلة الحرب الإسرائيلية، وطوّر وسائله الهجومية لتجاوز القبب الإسرائيلية المختلفة.
يعرف الإسرائيليون أن مئة ألف نازح أفضل من مليون وأن جنوداً يتساقطون بالمفرّق من دون إعلان أفضل من إحراق ثكنات بكاملها
تاسعاً، في العملية الأخيرة التي استهدفت غرب طبريا، والتي تبعد 32.5 كلم عن الحدود اللبنانية، أسقطت المقاومة نظرية شمال وجنوب الليطاني، إذ أكّد الحزب أن توغله في العمق الإسرائيلي لا حدود له، وهو طوّر مُسيّراته بما يضمن تجاوزها لكل وسائل الدفاع الجوي والبحري الإسرائيلييْن، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المُسيّرات البحرية المتطورة تأخذ أشكالاً مختلفة مثل الأسماك وغيرها، ما يسع تجهيزاته أن تبقيها أياماً في محيط منصات الغاز سواء في كاريش أو غيرها. واللافت هنا، وفق الأرقام الإسرائيلية، أن وسائل العدو الدفاعية كانت تسقط ثلاث مُسيّرات من كل ثلاث يطلقها الحزب أول شهرين، ثم باتت تسقط اثنتين من ثلاث بعد إدخال مُسيّرات جديدة للالتفاف على وسائل الدفاع الإسرائيلية، فيما هي تسقط مُسيّرة واحدة من كل ثلاث يطلقها الحزب في الشهرين الماضيين. وتظهر هذه المُسيّرات يوماً تلو الآخر قدرتها على إصابة أهدافها بدقة. ويكفي في هذا السياق وضع كل متابع لنفسه مكان الجنرالات الإسرائيليين الذين لا تستوقفهم المُسيّرات القليلة التي يطلقها الحزب اليوم إنما يتخيلون أن يطلق الحزب في لحظة واحدة ألف مُسيّرة تعجز وسائل الدفاع الإسرائيلية عن إسقاط أكثر من ثلثها فقط، لتصيب أكثر من ستمئة منها أهدافها بدقة.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار