جوانا فرحات
هناك عند تخوم القرى الجنوبية الحدودية لا صوت يعلو هدير الطائرات التي تحلق على مدار ساعات النهار وأزيز المسيرات ليلا. لكن أيضا لا شيء يفوق قدرة الصمود وإرادة البقاء لدى أهالي القرى المسيحية المتاخمة للخط الأزرق.
هناك لم يعرف الأهالي معنى النوم الهانئ والأحلام السعيدة منذ 31 يوما، وتحديدا منذ فجر عملية "طوفان الأقصى" وبدء الحرب على قطاع غزة. لكن ليس النوم وحده الذي نزح من جفونهم، بل أيضا أصحاب العيون التي تربّي "بالشبر والنذر" . كلهم حملوا أطفالهم وأولادهم والمسنين الذين كانوا يهنأون بآخر لحظات العمر في البيت الذي شيدوه وربوا فيه الأجيال، ونزحوا بالمئات إلى منازل أقرباء لهم في قرى جنوبية تبعد عن خطوط النار ومرمى الصواريخ الإسرائيلية، أو إلى منازل ومجمعات سياحية في بيروت والضواحي استأجروها لأيام معدودة.
إلا أن الواقع الميداني على الأرض بعد أسبوع على اندلاع حرب غزة كسر حاجز الرعب إذ تبين أن القصف يستهدف تخوم القرى وعليه "سنقاوم ونصمد شاء الإسرائيلي أم أبى".
التكلم مع أهالي القرى المسيحية الحدودية يقترن بمحاذير عديدة. فمعظم سكان هذه القرى يدرسون ويدققون بمواقفهم جيداً قبل الإعلان عنها لتجنب وضع قراهم بمواجهة مع القرى المحيطة، وإزاء التطورات الميدانية على الأرض بدأت مخططات الدعم ومساندة الأهالي الذين قرروا الصمود تتبلور أكثر فأكثر وتحديدا تلك الموجهة من قبل الكنيسة لدعم ومساندة أهالي القرى المسيحية الحدودية.
نائب كاهن رعية السيدة عين إبل الخوري جورج العميل يؤكد لـ"المركزية" "أن لا خطة واضحة وشاملة حتى الآن من قبل الكنيسة لدعم ومساندة أهالي القرى المسيحية الحدودية، إلا أن المبادرات التي قام بها راعي أبرشية صور المارونية المطران شربل عبدالله على وجه السرعة ساهمت في سد كل الثغرات".
أولى المساعدات التي تلقاها أهالي القرى الأكثر تعرضا للقصف وتدخل في نطاق رعية صور المارونية وهي رميش وإبل ودبل وعين إبل في بنت جبيل وعلما الشعب وكوكبا ومرجعيون كانت مالية، "إذ تم توزيع مبالغ مالية على الرعايا وتراوحت القيمة بحسب نسبة سكان كل رعية". ويلفت الخوري العميل إلى أن الحصص توزعت على العائلات الأكثر حاجة وتحديدا تلك التي تعتمد على أعمال الأرض والبناء والمياومين إضافة إلى المرضى.
التدخل الأبرز على مستوى الدعم والمساعدات جاء من قبل "solidarity" بمرافقة السفير البابوي المونسنيور باولو بورجيا وتولى توزيعها رئيس مؤسسة الانتشار المارونية شارل الحاج الذي زار القرى الحدودية المتاخمة للخط الأزرق ، وتضمنت حصصا غذائية وعبوات أوكسيجين للمستشفى الميداني المستحدث في المدرسة التكميلية في رميش والتي يتم وضع كل المساعدات الطبية من أدوية ومعدات وأجهزة تنفس إضافة إلى المواد الغذائية فيها. إلى ذلك هناك الجمعيات ومنها ما هو تابع للكنيسة وأخرى للمجتمع المدني وتعمل جميعها على تأمين مساعدات محدودة للأهالي.
بالنسبة إلى كاريتاس يقول الخوري العميل أن التدخل لم يتظهّر بعد لكن هناك خطة يتم العمل عليها في هذا الشأن. لكن الخطوة الأبرز جاءت من مؤسسة هديل التي يرأسها مواطن من آل الحاج وتعنى بالمسنين، إذ أعلن استعداده لاستقبال العائلات المسيحية النازحة من القرى الأكثر تعرضا للقصف في مراكزها في أنطلياس وأدما. وخصوصا تلك التي لا يسمح دخلها باستئجار منزل أو السكن لدى أحد أقربائها بسبب كثافة عدد القاطنين في المنزل الواحد.
وفي السياق، يلفت إلى أن غالبية الأهالي والعائلات التي نزحت في الأسبوع الأول عاد معظمها لأن القصف ليس مباشرا على المنازل إنما على الأطراف. لكن الأضرار كبيرة بسبب تصدع البيوت من شدة وقوة الصواريخ التي تتساقط على تخوم القرى الحدودية إضافة إلى احتراق مساحات شاسعة من البساتين والأحراج كما حصل منذ أيام في بلدة علما الشعب حيث احترقت أشجار معمرة وأشجار الزيتون التي كانت تشكل مصدر رزق للعائلات، كما تضررت سطوح المنازل المغطاة بألواح الطاقة الشمسية نتيجة تفجيرالصواريخ التي تطلق من الداخل اللبناني بالقبة الحديدية.
مؤسسة فرسان مالطا التي تملك سيارة طبية متنقلة والتي كانت تجول في المناطق الحدودية نزحت بدورها من مركزها الرئيسي في مطرانية الروم الكاثوليك في يارون وهي منطقة مختلطة، واستقرت في المستشفى الميداني في رميش. وتتولى الجمعية توزيع الأدوية على الأهالي والمصابين بأمراض مزمنة وفق الكميات المتوافرة"لكن ثمة أدوية باهظة الثمن وحالات تتطلب علاجا وأموالا طائلة وهذا ما يضعنا أحيانا أمام حائط مسدود على رغم الإيمان والرجاء بوجود أيادي بيضاء".
تجربة حرب تموز 2006 يستعيدها أهالي القرى المسيحية المتاخمة للخط الأزرق وبحاولون الإستفادة منها . "مثلا هناك عائلات اشترت منازل في بيروت وجبل لبنان بعد انتهاء الحرب للسكن فيها شتاء أو للجوء إليها في حال اندلاع حرب مشابهة لحرب تموز أو حرب غزة اليوم. لكن وبسبب تأجيرها خلال مدة إقامة هذه العائلات طيلة فترة الصيف أو أكثر في قراها لم يعد بإمكان الأهالي الذين قرروا الخروج مع أطفالهم من القرى الأكثر تعرضا للقصف الإقامة فيها. أما بالنسبة إلى الغالبية فيؤكد الخوري العميل "اننا صامدون وسنبقى في بيوتنا وقرانا ولن نخرج منها حتى لو دخل الإسرائيلي وأجبرنا على ذلك وليعلم أننا لن نترك أرضنا إلا رفاتا".
مع تطور الوضع الميداني وخروج المعارك عن حدود قواعد الإشتباك ارتفع منسوب الحذر في مقابل صفر خطة إستباقية وقائية"لا خطة لدينا إلا تعبئة خزان السيارة. فإذا ما اشتد القصف نستقل السيارات ونرحل. هذا كل ما نملك ونأمل أن لا تدق هذه الساعة. وإلى حينه باقون في بيوتنا وسنقاوم بإرادة البقاء في هذه الأرض يختم الخوري العميل.