30-09-2023
مقالات مختارة
|
المدن
عمر قدور
عمر قدور
على سبيل التأكيد ليس إلا، يقع في التسييس الاحتفالُ بانتخاب أمين معلوف رئيساً للأكاديمية الفرنسية مدى الحياة، بعد فوزه الواضح في الاقتراع على منافسه جان كريستوف روفان المولود عام 1952، وهو أصغر من معلوف بثلاث سنوات، بل ربما هو الأصغر على الإطلاق من بين 35 عضواً، بينما هناك خمس مقاعد شاغرة حالياً. وللدلالة سريعاً على التسييس الذي أشرنا إليه، يكفي أن نفترض ذهاب المنصب إلى فرنسي المنبت وعدم وجود معلوف على قائمة الترشيح أصلاً، إذ من المؤكد حينها أن الخبر لن ينال حيزاً من الاهتمام في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي العربية.
هذه الحفاوة العربية بكاتب من أصول عربية، لأنه نال تقديراً في الغرب، ليست جديدة. وهي تضم طيفاً الصوت الأعلى فيه يحمل نبرة انتصارية تتراوح بين الانتصار لفكرة وجود ذلك العربي الموهوب إذا ما أتيحت له ظروف مناسبة، وبين ذلك الإحساس بالانتصار على الغرب في عقر داره. وهل هناك دار فرنسية في الصميم كالأكاديمية نفسها؟ أما الصوت الخافت ضمن الطيف فيتحسّر أفراده على حال بلداننا التي تطرد بشتى الوسائل أبناءها المبدعين، وقد يتضامن مع أصحاب الحسرة أولئك الذين يرون مصلحة غربية في بقاء البلدان على تدهورها كي يستنزف الغرب خيرة عقول أبنائها!
في فخّ اللهجة الانتصارية ذاتها، تتكرر مثلاً الإشارة إلى انتخاب معلوف مدى الحياة، وكأنّ سلفه في المنصب لم تبقَ فيه حتى وفاتها عن 94 عاماً، علماً أن حوالى ثلاثين فقط توالوا على رئاسة الأكاديمية منذ تأسيسها قبل نحو أربعة قرون. وحتى عدد الرؤساء "مدى الحياة" كان ليصبح أقل لو لم تقتصر العضوية بمعظمها أو كلّها على أشخاص تجاوزوا الستين من العمر، فمثلاً شغلت إيلين كارير دانكوس المنصب بين عامي 1999 و2023، وهو يشغر بالوفاة أو الاستقالة.
في سياق متصل، ليس تفصيلاً هامشياً الاحتفاء برئاسة أمين معلوف مدى الحياة من قبَل أولئك الذين يرفضون المبدأ نفسه، أولئك الذين يدعون إلى تداولٍ في السلطة السياسية وصولاً إلى تداول السلطة على مختلف المستويات، بما فيها السلطات الأدبية. وهم أنفسهم إذ يدعون إلى تمثيل شرائح اجتماعية أوسع، من الشباب والنساء مثلاً، قد لا يعرفون "أو لا يكترثون بمعرفة" هامشية تمثيل المرأة في الأكاديمية الفرنسية، وانعدام وجود أعضاء أصغر سناً مما أشرنا إليه، بل "في حالات نادرة" أشيع كلام عن عزوف أشخاص أصغر سناً عن الانضمام في تعبير عن اليأس من الأكاديمية. فمهمة الأخيرة باختصار هي حماية وتطوير اللغة الفرنسية، وهناك في فرنسا من يأخذ عليها تزمتها وتغليب حماية اللغة على تطويرها.
انتخاب معلوف قد لا يخلو من التسييس على الضفة الفرنسية، بمعنى أن يكون جزء من الاقتراع له قد أتى على خلفية كونه مهاجراً، وفي هذا رسالة عن فرنسا التي تقبل رئاسة "الآخر" في واحد من أعتى رموزها، وهي رسالة مطلوبة حتى إذا رأى فيها البعض خبثاً تستر به فرنسا "عنصريتها" أو "ماضيها الاستعماري". وفي كل الأحوال، إذا كان من رسالة فرنسية موجَّهة إلى العرب، فهي موجَّهة إلى ما نسبته 10% من سكان فرنسا ذوي الأصول العربية، ولهم أولوية التوجه "إيجاباً أو سلباً" من قبل النخب الفرنسية.
بهذا المعنى يكون انتخاب معلوف شأناً داخلياً فرنسياً، بما قد ينطوي عليه من تسييس. قولُ هذا لا يهدف إلى منع عرب خارج فرنسا من الاحتفال بفوزه، لكن الاحتفال لن يصبح في حيز الفكري ما لم يقترن أولاً بفهم السياق الفرنسي في استيعاب الآخر. أمثولة معلوف تقع في الجانب المضيء، وإن كانت لا تختزل السياق كله، وهو سياق مضطرب ومتناقض مؤخراً فيما يخص النظر إلى المهاجرين.
وكان معلوف نفسه قد اشتغل على مستويات الهوية المركَّبة، ولو بتبسيط أحياناً، من دون أن تخلّف كتاباته تأثيراً يُعتدّ به على القارئ العربي. ذلك لم يمنع احتفاء القارئ ذاته بانتخاب معلوف، ولن يكون مُستغرَباً من الأكثر حماسة في الاحتفال أن ينصرف في اليوم التالي إلى التعاطي مع المجموعات البشرية في بلدان المنطقة بوصفها طوائف ومذاهب صافية متجانسة لا يخترقها أيّ آخر، وأن هذا هو حالها من قبل ومن بعد. بموجب ذلك، يكون معلوف قد انتقل في شبابه من بلد طوائفي مغلق إلى بلد قادر على استيعابه، وتجربته تقدّم نموذجاً في اتجاه وحيد هو طريق الهجرة.
جانب آخر من النفاق في الاحتفال برئاسة معلوف نراه في الاستسلام للجدران العازلة، فالجدران بين العرب وفرنسا سيعود المحتفلون لنصبها في اليوم التالي؛ بعضهم لاسترجاع نغمة ذمّ فرنسا والغرب، وبعضهم الآخر لجلد أقوام الشرق الأوسط التي نجا منها واحد آخر، ولن ينجو من اللعنة سوى أفراد على شاكلته. الأهم أن النجاة في بلدان المنطقة ممتنعة وفق هذا التصور الشائع، وأن الجدران المنتصبة بين أقوامها أبدية، والناجون هم فقط نخبة يواظب أفرادها على تأكيد فرادتهم ونفي فردانية الآخرين!
إن النقاشات حول مفهوم الهوية، التي ظهرت في الغرب قبل عقود، بقيت بمعظمها مغيّبة عن الثقافة العربية، رغم أهميتها إذ واكبت بدايات صعود اليمين المتطرف الغربي، وبداية هيمنة مفهوم صراع الحضارات. أمين معلوف واحد من الذين كتبوا ضمن جو النقاش ذاك، ولئن بدا الرهان خاسراً على سيادة مفهوم الهوية الفردية، ذات المستويات المتعددة، فطمس تلك المستويات لصالح هوية جماعية منسجمة وصافية لم يأتٍ بنتائج أفضل، والأقرب إلى الواقع أنه أتى بنتائج كارثية على صعيد صراع الحضارات، وتالياً على صعيد صراع المجموعات ضمن الجغرافيا السياسية الواحدة.
سيكون التساؤل محقاً عن مدى نفاق معظم المحتفلين العرب بانتخاب معلوف، بما أن معظمهم سيستأنف مواكبته صراع الطوائف على الأرض، وقسم لا بأس به سيستأنف مساعي تلك الجماعات لشيطنة الآخر بحيث يستحيل لاحقاً قبوله كجزء متضمَّن في الذات. في الواقع، الفرحة قبل وبعد أن تكون لمعلوف هي لفرنسا "الملوَّنة"، وإهمال هذا أو اعتباره خصوصية غربية غير قابلة للتكرار بعضه فقط يُصنّف في إطار جلد الذات، أما بعضه الآخر فهو يلاقي اليمين المتطرف الشعبوي، أي أنه يحتفي بمعلوف وهو على الضد منه.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
«لبننة» اللجنة الخماسية: «الدجاجة قبل البيضة أم العكس»؟!
مقالات مختارة
البراغماتيّة في السياسة!