الإتفاقيات العالمية التي تحفظ للنساء حقوقهنّ وتساهم بتنمية مستدامة للشعوب، لم تغيّر كثيراً في الواقع الصعب لنساء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بمن فيهنّ، المرأة اللبنانية. فعلى الرغم من توقيع لبنان لاتفاقية "سيداو" للقضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة"، ما زالت الدولة اللبنانية تتحفظ على بعض بنود الاتفاقية المتعلقة بمنح المرأة اللبنانية جنسيتها لأولادها، وقانون الأحوال الشخصية.
وخلافاً لكل التداول الاعلامي الذي يكاد ينحصر في التوعية، والاضاءة على العثرات الاجتماعية في مقاربة أي ملف حقوقي، يأتي فتح النقاش القانوني في الإعلام، جزءاً من جهد ينقل الملف الى الحيّز العام، ويضيء على وضع لبنان التشريعي والمؤسساتي والحقوقي للنساء وتأثير الأحزاب السياسية فيه على تغييبهن عن مراكز صنع القرار.
وطرحت هذه الملفات في ندوة نظمتها نواة للمبادرات القضائية SEEDS for Legal Initiatives ومؤسسة "كونراد ادينوار" Konrad Adenauer Stiftung، في بيروت، تناولت العدالة الجندرية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا انطلاقاً من 3 أهداف للتنمية المستدامة للأمم المتحدة: وهي المساواة بين الجنسين، السلام والعدل والمؤسسات القوية، العمل اللائق وتمكين الاقتصاد، بهدف تبادل المعلومات بين دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على قاعدة تشارك بيانات وتجارب الشعوب المتلاصقة، طالما أن غياب التنسيق يزيد من وضع المرأة سوءا في هذه المنطقة.
الاتفاقيات أعلى من القوانين
والتعرف الى الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة الـ17 للأمم المتحدة، المعروفة بـ"الأهداف العالمية"، وهو "المساواة بين الجنسين"، يكشف أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المناطق في العالم تقصيراً في هذا المجال. ففي 24 بلداً حول العالم، تُحرم المرأة حقها بمنح جنسيتها لأبنائها، نصف هذه البلدان يقع في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، حسبما تقول ديما دبوس.
وفي خضم النقاش الذي يحيل أي تقصير الى القوانين، تسقط يارا نصار، مديرة برنامج تمكين المرأة في الأمم المتحدة-لبنان، حجة القوانين المحلية التي تحد من حقوق المرأة، مذكرة بأهمية توقيع لبنان اتفاقيات دولية، بالنظر الى ان الاتفاقيات الدولية تعلو فوق القوانين المحلية طالما أنها لا تتعارض مع الدستور، في حين أن المطلوب اليوم برأيها هو مقاربة شاملة لتعديل قوانين الاحوال الشخصية وقانون العمل في لبنان، لجعل المرأة محمية بالقانون ومصانة حقوقها، وتغيير واقع أن نساء لبنان غير محميات في القانون كفاية.
العدالة الانتقالية... غائبة
فتحت الجلسات الباب على أحوال المرأة في مختلف الميادين والظروف، ومن بينها التركيز على تأثير منطقة الحروب والنزاعات في وضع المرأة عموماً، ليتبين أن المرأة، حسب المتحدثات، هي الأكثر تضرراً في الحروب، وهي كذلك مبعدة تماماً عن عملية بناء السلام، وهو ما يتعارض وقرار مجلس الامن رقم 1325 الذي يكرس وجود المرأة في عملية بناء السلام.
وخطورة الحروب والنزاعات والأزمات، تنعكس انهياراً في منظومة الدولة والقوانين التي تحمي النساء، ما يطرح أزمة مدى وصول النساء الى العدالة.
ولعل العدالة الانتقائية، هي أكثر ما تعاني منه المرأة بعد الحرب اللبنانية، وهو ما أشارت اليه المحامية ليال صقر، مؤسِّسة SEEDS for Legal Initiatives ، التي ترى أن العدالة الانتقالية تتمثل بمراحل المحاسبة والمساءلة وإصلاح المؤسسات، وتخليد الذاكرة. وتقول: "إن أحداً لم يُحاسب بل تكرست سياسة الإفلات من العقاب في الحرب، في حين أنّ النساء يعانين الأمرّين في ملف مفقودي ومخطوفي الحرب الأهلية، وهذا يأخذنا إلى فشل العدالة الانتقالية في لبنان بعد الحرب".
وفيما يتعامل الاعلام أيضاً بشكل انتقائي ومناسباتي مع النساء الخارجات مكسورات من الحروب، يبرز جانب آخر يفضي الى انه "لا هوية قانونية مستقلة للنساء في لبنان". ففي قيود الأحوال الشخصية هنّ "تابعات" إما لنفوس الزوج أو الأب. وفي الحرب كما السلم، تدفع النساء كلفة باهظة بالقوانين التمييزية، على الرغم من تسجيل بعض الانتصارات التشريعية مثل إقرار قانون العنف الاسري وقانون منع التحرش في أماكن العمل.
أما الحلول التي يجب أن ترافق مسار تطوير وتعديل النصوص القانونية، لتؤدي غرضها بتحقيق العدالة، فتتمثل، في رأي صقر، بالإصلاح القضائي وضرورة خضوع معاهد القضاة للتوعية الدائمة.
ولإنتاج مؤسسات قانونية قوية قادرة على حماية النساء، لا بدّ من استقلالية تلك المؤسسات. في السياق، ذكّرت صقر بما يحدث من استخدام للنيابات العامة من قبل نافذين سياسيين لقمع الحريات في البلاد، وكذلك موجة التضييق الحاصلة على الفئات المهمشة، مشددة على أن الحريات لا تتجزأ، وهو ما "يأخذنا إلى ضرورة اضفاء مقاربة جديدة لقانون العقوبات"، لا سيما بعد تحول عقوبة "القدح والذم" أداة بيد السياسيين لقمع الحريات وتهديد حق الانتقاد في البلاد.
غوغل ومايكروسوفت: شريكتان في المعركة!
يغرق البحث في الاشكاليات القانونية، كل منطقة على حدة، ويقفز الى الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة، وهو "العمل اللائق وتمكين الاقتصاد"، حيث تقابل فجوة الدخل بين النساء والرجال في القطاع الخاص، دعوة لتطوير الأنظمة الداخلية للقطاع الخاص توازياً مع الحاجة لتطوير التشريعات القضائية.
فهناك عِلم الداتا والبيانات لناحية "ربط المعلومات" بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سواء لناحية استقاء التجارب الإيجابية، كتجربة الأردن في إقرار تشريعات لصالح المرأة في العمل، أو لناحية رصد التجارب الصعبة ومحاولة تفاديها، أو لناحية تحليل واقع المرأة ومحاولة التغيير والتضامن بين نساء هذه الدول.
ويمثل الاستثمار والعمل في القطاع التكنولوجي، العامل الأكثر ضماناً لتمكين المرأة اقتصادياً، وتلعب الميديا دوراً في عملية تغيير واقع المرأة حقوقياً واقتصادياً. وتبرز أهمية العمل مع القطاع الخاصّ لإنصاف مسار تمكين المرأة اقتصادياً، لا سيما عمالقة التكنولوجيا مثل غوغل ومايكروسوفت، فتأثير هذه الشركات في الرأي العام العالمي، بات "أقوى من الحكومات" وسياساتها.
توصيات
وخرجت الندوة بتوصيات عديدة، أبرزها:
- تبادل الداتا بين دول المنطقة حول واقع المرأة والإصلاحات القانونية في مجال المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة اقتصاديا.
- رفع الدولة اللبنانية تحفظاتها عن اتفاقية سيداو والمصادقة على اتفاقية منظمة العمل الدولية لعام 2019 بشأن العنف والتحرش في عالم العمل.
- تعديل القوانين المحلية لتتماشى مع المعاهدات الدولية، وارساء منظومة قانونية اكثر استجابة للنوع الاجتماعي.
- اعتماد الكوتا كتدبير مؤقت، وعدم حصرها في المجلس النيابي بل بالوزارات والبلديات والنقابات، لإجبار الأحزاب السياسية على خلق قيادات نسائية.
- تقوية النقابات العمالية لخلق بيئات عمل آمنة للنساء
- رفع الدولة اللبنانية تحفظاتها عن اتفاقية سيداو والمصادقة على اتفاقية منظمة العمل الدولية لعام 2019 بشأن العنف والتحرش في عالم العمل.