25-09-2023
مقالات مختارة
|
نداء الوطن
بعد أيام على إصدار ديوان المحاسبة تقريره الذي رفض على أساسه نتيجة المزايدة الأخيرة لتلزيم قطاع الخدمات البريدية، تقدّم وزير الإتصالات في الأسبوع الماضي بطلب «إعادة نظر» في القرار أمام الغرفة الناظرة فيه والتي يرأسها القاضي عبد الرضى ناصر. إستخدام الحق الذي تمنحه المادة 43 من تنظيم قانون ديوان المحاسبة للإدارة المختصة، يضع وزير الإتصالات في موقع المصرّ على تلزيم تشغيل هذا القطاع لتحالف شركتي COLIS PRIVE FRANCE وMERIT INVEST S.A.L، على الرغم من رفض الهيئات الرقابية المتكرّر العرض الوحيد المقدّم، مرّة من قبل هيئة الشراء العام ومرة أخرى من قبل ديوان المحاسبة.
لا معطيات واضحة حتى الآن حول المبرّرات التي تضمّنها طلب وزارة الإتصالات- مديرية البريد بإعادة النظر. إلا أنّ المعلومات تشير إلى أنّ الغرفة الناظرة في ديوان المحاسبة تسلّمت الطلب، وهي تستعدّ لقراءة متأنية لما سيتضمّنه، ليُبنى على الشيء مقتضاه، ولكن بشرط أن يكون مضمون الاعتراض «جدياً، وواقعياً، ونظامياً، وقانونياً».
إنما الأهمّ وفقاً لمصادر مطّلعة أن يكون من أعدّ الاعتراض، قد قرأ بتأنٍ مضمون قرار ديوان المحاسبة، وبشكل أفضل من مراجعته دفتر شروط المزايدة وتعديلاته الذي أطلقته وزارة الإتصالات رغم «الأخطاء والمغالطات»، التي لفت إليها الديوان في تقريره الأخير.
والمعطيات التي بنى على أساسها الديوان عدم قبول نتائج المزايدة، لا يمكن أن تسمح بأقلّ من إجابات «علمية» للعودة عن قراره. إذ إن تقرير الغرفة الناظرة في هذا الملف أظهر تحقّقها من كامل المسار الذي سلكته محاولات التلزيم، بدءاً من إطلاق دفتر الشروط الأوّل للمزايدة، وانتهاءً بكشف مجمل «العيوب» التي شابت محاولة التلزيم الأخيرة، وتعديلات دفتر شروطه التي اعتبر الديوان أنها فصّلت على قياس تحالف COLIS PRIVE FRANCE و»ميريت إنفست» اللبنانية، خصوصاً عندما عدّلت الجهة الشارية في موضوع المزايدة ومؤهلات المتقدّمين إليها.
إذ سمحت لأصحاب «تراخيص نقل مواد المراسلات و/أو الطرود و/أو الطرود البريدية و/أو الرزم الصغيرة» المشاركة فيها، وذلك بدلاً من حصرها «بأصحاب الخبرة في تقديم وتشغيل الخدمات والمنتجات البريدية والخدمة الشمولية، وإدارة المرفق على صعيد بلد أو مقاطعة» كما ورد في دفتر الشروط السابق. هذا مع العلم أنّ «الديوان» أشار إلى أنّ «دفاتر الشروط الثلاثة التي وضعت غير مراعية معايير الدقة، الشفافية، الموضوعية، الوضوح، وعدم التعقيد والثبات»، وهذا ما يلزم وزارة الاتصالات تقديم إجابات شافية لمجمل الأسئلة التي أثارها في تقريره.
لم يكتفِ تقرير ديوان المحاسبة في المقابل بالتذكير بالأسس التي بنت على أساسها هيئة الشراء العام قرارها بإلغاء نتائج المزايدة السابقة (أي الثانية)، ولا سيّما لجهة عدم تمتّع التحالف بالمؤهّلات المطلوبة وإضرار عرضه بالمال العام، بل أورد معطيات جديدة تكشف إصرار وزارة البريد على إنهاء الصفقة حينها. فهي لم تخالف قانون الشراء العام بقبولها المضيّ بالصفقة على الرغم من وجود عرض واحد، إنما ارتكبت أيضاً مخالفة أخرى للقانون من خلال تعاميها عن مخالفة أساسية ارتكبها التحالف بعدم مشاركته في زيارة «إلزامية» للمواقع والنقاط البريدية، ما جعل أرقام خطته التشغيلية «افتراضية».
وهذه الافتراضية كما يتبيّن من تقرير ديوان المحاسبة، كانت هي أيضاً القاعدة التي حدّدت على أساسها الوزارة الطرح الأدنى للعروض. إذ إن الوزارة اعتمدت طرح الـ10 بالمئة كحدّ أدنى لانطلاق المزايدة من دون إعداد أي دراسة مالية تحليلية للمشروع، تسمح لها بتحديد الإيرادات الفعلية المتوقّعة. فكيف ستتمكّن وزارة الاتصالات من دحض التأكيدات التي قدّمتها لديوان المحاسبة على هذه المسألة؟
إذاً ينتظر من وزارة الاتّصالات تقديم حجج أكثر إقناعاً من التبريرات السابقة التي قدّمتها للديوان خلال إعداده تقريره، ولا سيّما في ما يتعلّق بالتعديلات التي أُدخلت على المؤهّلات المطلوبة في العارضين. إذ شرح وزير الاتصالات في كتاب موجّه للديوان «بأنّ الهدف من التعديل هو الحصول على أوسع مشاركة من قبل الجهات الراغبة، والتي تملك الخبرة في نقل مواد المراسلات» بينما النتيجة كانت أنّ الوزارة رفضت تمديد مهل تقديم العروض التي أوصت بها أيضاً هيئة الشراء العام لتأمين منافسة أكبر في المزايدة.
هذا في وقت اعتبر الديوان أنه إذا كانت الجهات التي ينتظر أن تتوفّر فيها المؤهلات المطلوبة هي شركات عالمية لها خبرتها في تشغيل قطاع البريد ومتفرّعاته، ستحتاج بطبيعتها إلى وقت أطول للتعرف إلى الواقع اللبناني المتّصل بالصفقة.
وعليه خلص الديوان «لكون تعديل دفتر الشروط يفتقد إلى الموضوعية والشفافية والنزاهة»، معتبراً «أن التبسيط والتهوين للمؤهلات شكّل امتيازاً للتحالف الذي أرسي عليه العقد مؤقتاً، طالما أنه كان الوحيد او إحدى الجهات القليلة التي تسنّى لها الوقت للتعرّف الى هذا الواقع بحكم تقدّمه بعرض سابق في الصفقة نفسها».
إذاً لا بدّ أن يتوقع ديوان المحاسبة إيضاحات أكثر إقناعاً على هذه الاستفسارات التي وجّهها سابقاً، بالإضافة الى توقّعه إجابات عن أسئلة أخرى طرحها في تقريره عن تبريرات تعديل دفتر شروط يُفترض أن يكون قد وضع تماشياً مع حاجات تنوي الوزارة تلبيتها وأهداف تتوخّاها من خلال عملية التلزيم.
هذا مع العلم أنّ الديوان طرح أيضاً أسئلة عن أهلية شركة تحمل ترخيصاً في نقل الطرود البريدية، بتشغيل مرفق عام بريدي بطريقة مربحة، تكفل رضى المستخدمين والمنظّم من ناحية، وتؤمّن مستوى الخدمات وجودة المنتجات. وعمّا إذا كان يُتوقّع تحقيقها الأهداف والمنافع الاستراتيجية، والفوائد الجانبية الممكنة للاقتصاد اللبناني، خصوصاً من خلال زيادة فرص الاستثمار وفرص التوظيف المستدام، وجعل هذا القطاع أكثر قدرة على المنافسة، واستقطابه خدمات ومنتجات جديدة وفقاً لما هو قائم على المستوى المحلي والعالمي؟ وهل بإمكان التحالف الذي «فصّل» دفتر الشروط على قياس مؤهّلاته توفير الخدمات والمنتجات البريدية، والعمل كبنية تحتية متينة ومنصّة فعّالة للأعمال التجارية القائمة والجديدة؟
وهل يقدر على تحسين المرفق عبر الاستعانة بالاستراتيجية والرؤيا المقدرة، التي تتحلّى بها جهات دولية ذات خبرة، من أجل الاستفادة من فرص جديدة للنمو المستمرّ للأعمال؟
وحدها الإجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن تصرف نظر متابعي هذا الملف، عمّا أظهره تقرير ديوان المحاسبة أيضاً من خفّة في إعداد الصفقة ودفتر شروطها، وعدم دقة بالنصوص المكتوبة، وإحالة العارضين المحتملين إلى مواد غير صحيحة أو حتى موجودة بالأساس، أو لجهة استخدام عبارات غامضة وغير مفهومة المعنى. وهذا «استخفاف» اعتبرته مصادر مطلعة على الملف «استهتاراً» في إعداد دفتر الشروط، ما زاد القناعات بنيات غير حسنة مخبّأة، تمهّد لمزيد من هدر المال العام، علماً أنّ ما يلفت أنّ الجهة الفائزة مؤقتاً بالإلتزام لم تتقدّم بأي استفسار حول ما ورد من أخطاء، فمضت بتقديم عرضيها من دون أي سؤال، خلافاً لما فعله مهتمون آخرون بالصفقة.
في وقت أبرز تقرير ديوان المحاسبة أيضاً تناقضاً بين دفتر الشروط وشروط العقد، بما يمكن أن يبدّد مصلحة الدولة. كما أبرز تعقيدات في الدفترين، ووضع نصوص غير مألوفة ضمن دفتر الشروط ترتكز على معايير مطاطة واستنسابية ولا تمّت إلى المنطق بصلة، متوقفاً أيضاً عند اعتماد الجهة الشارية مخططَ تقاسم إيرادات في المزايدة الثالثة مغايراً لذلك الذي أطلقت على أساسه المزايدة الثانية.
فهل تبدّد وزارة الاتصالات جميع هذه الهواجس، وتنجح في إنقاذ سمعتها وسمعة لبنان من خلال تقديم إجابات علمية مثبتة؟ أم يَثبت الديوان على قراره، فتمهّد نهائية هذا القرار لمحاولة تلزيم رابعة، لعلّها هذه المرة تنهي الجدل الذي أثارته صفقة تلزيم البريد وخدماته منذ بدايتها؟
أبرز الأخبار