16-09-2023
محليات
|
عربي بوست
"وبينما كان ينبغي لنا، بعد أن نكون قد وضعنا خطة سياسية إدارية واقتصادية واجتماعية، أن نعهد بتنفيذها إلى رجال حازمين، مطلعين على أمور الشرق، وأن ندعمهم، وصلنا إلى بيروت من دون برنامج. كان الرجال المكلفون بتمثيلنا يفتقرون إلى معرفة البلد. لقد مارسوا السياسة والإدارة بطريقة تجريبية رديئة، وبنظرة قصيرة الأمد، معتمدين تارة على مجموعة، وتارة على أخرى، فنجحوا في إغضاب الجميع".
هذا الكلام لم يكتب اليوم، في عام 2023، بل قد خطه الكاتب والصحافي الفرنسي بيار لا مازيير منذ قرن من الزمن، تحديداً سنة 1925. في الصفحة 11 من كتابه "متوجهاً نحو سوريا" (نُشر سنة 1926، غير مترجم للعربية)، يضمّن لا مازيير مقدمة الكتاب بهذه الملاحظة الأساسية التي تلخّص جوهر انتقاده لأداء بلاده، أي فرنسا، في انتدابها على كل من سوريا ولبنان.
كتاب لا مازيير كناية عن تحقيق صحفي مطوّل أجراه الكاتب الفرنسي خلال زيارته للبنان وسوريا، مرافقاً المفوض السامي الفرنسي المعيّن جديداً هنري دو جوڤنيل، الذي كان آتياً من فرنسا لاستلام مهامه. يعبر المؤلف البحر الأبيض المتوسط مع المفوض السامي الجديد، وبعد توقفه في الإسكندرية، سيأخذه تحقيقه الميداني إلى بيروت، وبكركي، ودرعا، والسويداء، ودير الزور، وبصرى الشام، وحلب، واللاذقية، وأخيراً دمشق، وسيلتقي هناك وجهاء وزعماء العشائر والمثقفين والضباط الفرنسيين.
يجري لا مازيير في كتابه تقييماً قاسياً لست سنوات من الانتداب الفرنسي في بلاد الشام، ثم يطرح سؤالاً أساسياً: هل نرحل أم نبقى؟ وتحت أي ظروف، وبأي عواقب؟
كثير من الملاحظات، وخصوصاً التحفظات، ممكن أن تقال حول كتاب لا مازيير هذا، الذي لا يخلو من نظرة استشراقية استعمارية استعلائية. ولكن أهم ما في الكتاب هو نظرة الكاتب الثاقبة في كثير من الأمور، لا سيما تلك المتعلقة بسياسة فرنسا في المشرق، بالإضافة إلى طباع الساسة في منطقة بلاد الشام.
أسباب فشل لودريان
يبدو أن الإدارة الفرنسية الحالية المكلفة الملف اللبناني، بما فيها جان إيف لودريان، مبعوث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان، لم تتعلم من تجربة لا مازيير، ولم تستخلص العبر من تحقيقه.
لورديان: مستقبل ليبيا يحدده الليبيون وليس مصالح قوى خارجية
إن أخطاء السياسة الماكرونية في لبنان كثيرة، لا تبدأ بإعادة تعويم الطبقة السياسية بعيد انفجار المرفأ في صيف 2020، ولا تنتهي بالخطأ الدبلوماسي المتمثل بالأسئلة التي وجهها المبعوث لودريان مؤخراً للنواب اللبنانيين، طالباً أجوبة مكتوبة، وكأنه أستاذ يتوجه لتلامذة مدرسة، مروراً بمغازلة حزب اللّه (مثل تبني غير رسمي لترشيح فرنجية حتى وقت قريب)، وخصوصاً من ورائه، أي إيران، إذ تعتبر فرنسا ماكرون أن لبنان هو بوابتها على الشرق الأوسط لا سيما على إيران، ولو على حساب مصلحة لبنان وسيادته، وغيرها الكثير من الأخطاء.
ولكن يبقى خطآن أساسيان هما الأكثر فداحة، والأكثر شمولاً، وربما كان الاطلاع على تجربة لا مازيير في لبنان، وخصوصاً الاعتبار منها، كفيل بتلافيهما:
ـ غياب الرؤية الواضحة والبرنامج وخطة العمل الفعلية للمبعوث الفرنسي، وكأن الإدارة الفرنسية الحالية المكلفة الملف اللبناني تتقصد الوقوع بنفس الخطأ الأساسي الذي وقع فيه الانتداب الفرنسي منذ قرن من الزمن، وذلك كما ورد في الاقتباس من كتاب لا ما زيير في أول هذا المقال، فلو دريان ذهب إلى لبنان بمبادرة حوارية ولكن دون تحديد الوسائل الكفيلة لتنفيذها، لا سيما دون أي "عصا" أو "جزرة" لمحاولة الضغط سلباً أو إيجاباً على الفرقاء السياسيين اللبنانيين من أجل وضع مبادته حيز التنفيذ، فظهر بمظهر المتخبّط الذي يقع في كثير من التناقضات في كلامه وتصرفاته.
ـ من الواضح والجلي أنّ هذه الإدارة الفرنسية ليست على اطلاع كافٍ على نوع النفسيات التي تتعامل معها في هذا البلد، ولذلك اتصفت سياستها في لبنان بكثير من السذاجة، كي لا نقول البلاهة.
منذ ١٩٢٥، استطاع الكاتب والصحافي الفرنسي بيار لا مازيير سبر نفسيات الساسة في لبنان، ويعبر عن ذلك بلسان أحد أصدقائه الفرنسيين في بيروت، الذي يستعمل استعارة ملطّفة تتعلق بشخصية جانوس أو يانوس، وهو إله بوجهين في الميثولوجيا الرومانية: "هنا لا توجد حقائق ولا أكاذيب، بل فقط روايات متعددة لقصة واحدة. هنا عليك أن تهدّئ من حماستك ومن سخطك، وأن تكون حذراً من المظاهر. لا تتسرع في إصدار الأحكام على الأشياء وعلى الرجال، الذين يتمتعون جميعاً، أو معظمهم تقريباً، بوجهين – مثل يانوس، الذي كان أيضاً، بالمناسبة، من شرق البحر الأبيض المتوسط". بكلام آخر: الكل هنا بوجهين ولسانين، والنفاق سيد الموقف.
ويبقى الابتزاز السياسي الوسيلة الأساسية التي تترجم ذلك، فكما كان الموارنة يقولون سنة 1925، كما ورد في كتاب لا مازيير: "إما أن يعتمد الانتداب الفرنسي على الطائفة المارونية، أو لا يكون"، فاليوم كل طائفة تقول: إما أن تكون فرنسا معنا، وإلا لا نريدها، ولا نريد لا دورها ولا مبادرتها في لبنان.
يعتقد لودريان أنه يفاوض أناساً صادقين، قرارهم محلي وبيدهم، في حين أن العكس هو الصحيح. ربما يعتقد لودريان أنه يفاوض نواباً كأغلبية النواب الفرنسيين، أو نواباً كأغلبية النواب في دول أوروبا، أو غيرها من البلدان الأقرب إلى طريقة تفكيره وعقليته في التعامل، في حين أنه في الحقيقة أمام خليط أغلبه من أمراء الحرب أو من ورثهم، ومنهم من عاد إلى أدبيات الحرب الأهلية مع نغمة الفيدرالية والتقسيم، ومقاطعجيي الطوائف، والانتهازيين، ورجال الأعمال المركنتيليين، والأبواق المستزلمين، وثعالب السياسة المخضرمين، كل منهم يتلقى تعليماته من سفارة مختلفة، وكلهم متمرسون باللفّ والدوران، والتنصل، والكذب، والدجل، والتقية السياسية.
ولذلك، هذه المرة أيضاً، كالعادة، وكما كان متوقعاً، قام هؤلاء جميعاً بتدويخ لودريان تدويخاً، وبالضحك معه فعليه، واصطحبوه للبحر وعادوا به عطشاناً، يجر وراءه أذيال الخيبة والفشل الكبيرين، الممتدة من بيروت إلى باريس، بالاتجاهين.
الحوار ومخالفة الدستور
تتذرع قوى المعارضة، لاسيما حزبا القوات والكتائب، بالإضافة إلى عدد معتبر من النواب السنة، بالدستور وضرورة احترامه، وذلك لرفض الحوار قبل انتخاب رئيس للجمهورية. القول إن الحوار حول اختيار رئيس للجمهورية قبل انتخاب رئيس للجمهورية مخالفة دستورية ممكن أن يكون صحيحاً في حال لم تجرِ أي جلسة أو أي دورة لانتخاب رئيس للجمهورية، لا سيما بسبب عدم دعوة رئيس مجلس النواب لأي جلسة لانتخاب الرئيس.
ولكن عندما تجري 13 جلسة بناء على 13 دعوة من رئيس مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية، ويتم تعطيل الدورة الثانية من الانتخاب في كل مرة بتطيير النصاب، وذلك عبر ممارسة حق دستوري (ربما ممكن اعتبار أنه يُمارس "تعسفياً"، ولكنه يبقى عملياً حقاً أعطاه الدستور للنواب من خلال تحديد نصاب معين للجلسة) حتى الطرف الآخر المعترض اليوم عليه يقول إنه سيمارسه في حال تم تأمين ٦٥ صوتاً لمرشح الممانعة سليمان فرنجية، فعندها تصبح نظرية أن الحوار قبل انتخاب رئيس للجمهورية مخالفة دستورية.. نظرية ضعيفة نوعاً ما، لا سيما على ضوء روحية الدستور اللبناني القائم بجوهره، منذ 1926، مروراً بتعديلات الطائف، على فكرة أساسية، ألا وهي مبدأ التوافق بين الطوائف.
أما ما وراء الذريعة، فيبدو أنه صراع نفوذ خارجي داخل لبنان، ترجم عبر دور سلبي لبعض الدول الأعضاء في اللجنة الخماسية بشأن لبنان، لا سيما غير الراضين عن المبادرة الفرنسية، وأولهم السعودية التي جمع سفيرها في بيروت، وليد البخاري، النواب السنة في دارته، بحضور مفتي الجمهورية الممدد له حديثاً بفعل ما يبدو أنه جهود سعودية أيضاً، بالإضافة إلى المبعوث الفرنسي لو دريان، وذلك في ما يبدو أنه محاولة لقطع الطريق على المبادرة الفرنسية، ولو على حساب إيجاد بداية ما يمكن أن يكون حلاً عملياً (الحوار) لمعضلة انتخاب رئيس للجمهورية (ولو من باب إعادة "حشر" فريق الممانعة الذي كبّ كرة الحوار في ملعب المعارضة)، ودون طرح أي بديل واقعي على سبيل الحل.
صحيح أن السياسة الفرنسية فاشلة في لبنان، وصحيح أن مغازلة الفرنسيين لفريق الممانعة، لا سيما عبر تبنيهم السابق وغير الرسمي لترشيح فرنجية، أمر يضر بلبنان وبسيادته، ولكن، بالمقابل، فإن سياسة بعض محور الاعتدال العربي، التي تريد التضحية بآخر لبناني حفيان من أجل هزيمة الممانعة في لبنان، ولو على حساب هذا البلد وشعبه، ودون أي مقومات لصمود هذا الشعب، وفي حين يتمّ إعادة التطبيع بين السعودية وإيران على ضوء اتفاق بيكين، ليست بالضرورة سياسة أقل فشلاً، أو عبثية، أو خصوصاً أقل ضرراً بلبنان ونحراً لما تبقى من شعبه المنكوب.
وما يعزز الانطباع المتعلق بوجود صراع نفوذ خارجي بين الحلفاء في لبنان، هو أنّ لقاء البخاري جاء بمثابة رسالة سعودية تقول إنّ "الأمر لي" في لبنان، لا سيما سنياً، وليس لفرنسا، وأن القرار بالمشاركة بالحوار، أو بعدم المشاركة، يتم إعلانه من السفارة السعودية، وليس من أي سفارة أخرى.
أما أهم ما غاب عن الحاضرين في لقاء السفير السعودي، لا سيما أن معظم الحاضرين غالباً ما يتشدقون بالسيادة والاستقلال واحترام الدستور، أنه عندما كان لسنّة لبنان قرار، كان يتم إعلان القرار اللبناني السني من دارة المفتي في عرمون، أو من دار الفتوى في عائشة بكار، أو من قصر آل سلام في المصيطبة، أو من دارة رفيق الحريري في قريطم، أو من بيت الوسط، أو من دارة آل كرامة في طرابلس، أو من غيرها من مراكز القرار اللبناني السني المستقل، وليس من سفارة أو من /دار سفير دولة أجنبية في لبنان، يتم استدعاؤهم إليها لـ"نصحهم" بما يجب أن يكون قرارهم.. فإعلانه.
هذا عندما كان للبنانيين السنة رجال.. واستقلالية.. فقرار، لا سيما أن استقلالية القرار اللبناني عامة هي من استقلالية قرار سنته أيضاً.
بالمحصلة فشل المبعوث الفرنسي للبنان كبير، وتقترب السياسة الفرنسية في هذا البلد من أن تصبح مهزلة، وذلك لأنها تفتقر إلى الحرفية في إدارة التفاوض، لا سيما أنها لا ترتكز إلى أي وسيلة حقيقية من وسائل الضغط على مختلف الأفرقاء اللبنانيين، ناهيك عن عدم دراية بطباع ونفسيات الساسة اللبنانيين الذين تتعامل معهم.
مؤسف.. لفرنسا، وخصوصاً للبنان.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار