29-09-2022
مقالات مختارة
|
الجمهورية
طارق ترشيشي
طارق ترشيشي
أيّاً كان مصير الجلسة الاولى لانتخاب رئيس جمهورية جديد اليوم، أتنعقد ام لا تنعقد؟ أتنتخب رئيساً ام لا تنتخب؟ وأياً كان هذا الرئيس سواء انتخب اليوم ام لم ينتخب، فإنّ المشكلة هي في هذه الطبقة السياسية المزمعة على الانتخاب، بل هي قبل كل شيء في النظام المشوّه الذي نجمَ من تشويه تنفيذ «اتفاق الطائف» والدستور الذي انبثق منه.
الدستور والواقع يفرضان ان ينتخب رئيس جديد للبنان، وقبله يفرضان وجود حكومة مكتملة المواصفات الدستورية حتى ولو انها ستعيش شهراً لتصبح بعد انتخاب الرئيس اذا حصل مُستقيلة دستورياً الى أن يبادر الرئيس الجديد عند تولّيه مسؤولياته الى إجراء الاسشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس لحكومة جديدة تكون الاولى في ولايته الرئاسية.
وهذان الدستور والواقع، خصوصاً في ظل الانهيار الذي تشهده البلاد، لا ينبغي ان يتيحا تكرار السابقات التي حصلت إثر نهاية ولايات رؤساء الجمهورية السابقين على التوالي امين الجميّل واميل لحود وميشال سليمان.
ففي نهاية ولاية الجميّل خريف العام 1988 حصل فراغ أنتجَ حكومتين، الاولى كانت قائمة وهي حكومة الرئيس سليم الحص التي استمرت بفعل الامر الواقع، والثانية الحكومة العسكرية برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون ألّفها الجميّل في ربع الساعة الاخير من ولايته لتعذّر انتخاب خلف له (والجميع يتذكر هنا مقولة الاميركيين امّا مخايل الضاهر وامّا الفوضى)، وتحولت هذه الحكومة بتراء نتيجة انسحاب الوزراء الضبّاط المسلمين منها فور صدور مرسوم تأليفها.
وفي خلال هذه الفترة شَن عون ما سمّاه «حرب التحرير» ضد القوات السورية العاملة في لبنان، ولكنه لم يتمكن من اخراج هذه القوات من لبنان. ثم كانت الحرب بينه وبين «القوات اللبنانية» بقيادة الدكتور سمير جعجع، والتي سمّاها «القواتيون» بـ«حرب الالغاء». وانتهت هاتان الحربان بانعقاد مؤتمر الطائف في المملكة العربية السعودية الذي أنتج «وثيقة الوفاق الوطني» المعروفة بـ«اتفاق الطائف» التي تضمنت آلية لإنهاء الحرب، والى جانبها آلية حل سياسي للازمة. وبنتيجة هذه الوثيقة انتخب الرئيس رينيه معوض في مطار القليعات في عكار تجنّباً لتعطيل الجلسة، اذا انعقدت، بنيران قوات عون الذي كان متحصّناً في القصر الجمهوري آنذاك. لكنّ معوض اغتيل في يوم عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني بعد نحو شهر ونصف من انتخابه، لينتخب الرئيس الياس الهرواي خلفاً له في 24 من الشهر نفسه في «بارك اوتيل» شتورة في البقاع للأسباب الامنية نفسها. ودامت ولاية الهراوي 9 سنوات بعد تمديدها دستوريا 3 سنوات.
ثم كان انتخاب الرئيس اميل لحود الذي دامت ولايته ايضا 9 سنوات بفعل التمديد له لـ3 سنوات ايضا على غرار الهراوي. وفي خلال هذه السنوات الثلاث بدأت الاوضاع السياسية تضطرب في البلاد، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري واغتيال بعض الشخصيات السياسية وانسحاب القوات السورية من لبنان وانقسام القوى السياسية الى فريقين متناحرين (8 و14 آذار)، عَسكَرا وجهاً لوجه في ساحتي الشهداء ورياض الصلح في وسط بيروت في ظل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تحوّلت بتراء نتيجة انسحاب فريق 8 آذار منها. وانتهت ولاية لحود الممدّدة في خريف 2007 الى فراغ في سدة الرئاسة لنحو 8 اشهر انتهت بأحداث ايار 2008 الشهيرة التي أنتجت مؤتمر الدوحة برعاية القيادة القطرية، واتفق خلاله على انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان آنذاك رئيساً للجمهورية.
ولمّا حالَ النزاع السياسي العنيف بين فريقي 8 و14 آذار دون الاتفاق على انتخاب رئيس جديد خلفاً لسليمان الذي انتهت ولايته في 25 ايار 2014، تولّت حكومة الرئيس تمام سلام صلاحيات رئاسة الجمهورية ودام الفراغ في سدة الرئاسة نحو سنتين ونصف السنة، لأنّ «حزب الله» وحلفاءه تمسّكوا بترشيح العماد ميشال عون ورفضَ فريق 14 آذار هذا الترشيح ولم يتمكن من ايصال مرشح من صفوفه، وحاول الرئيس سعد الحريري يومها ان يخرق جدار الفراغ بالمبادرة الى ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية مُعتقداً ان «حزب الله» وحلفاءه قد يؤيدون هذا الترشيح ويتخلّوا عن ترشيح عون، الامر الذي لم يحصل. وكان ان بَدّلَ الحريري وحلفاؤه موقفهم وقبلوا بترشيح عون ضمن ما عُرف بـ«التسوية الرئاسية»، ومعها «اتفاق معراب» بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» التي أيّدت كالحريري وتيار «المستقبل» ترشيح عون الذي انتخب بأكثرية كبيرة.
امّا الآن وفيما البلاد ما تزال ضمن المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد خلفاً لعون الذي تنتهي ولايته في 31 تشرين الاول المقبل، فإنّ المخاوف كبيرة من الدخول في فراغ رئاسي تتناقَض التوقعات عن مَداه، بين قائلة بدوامه أشهراً معدودة واخرى تقول بسنة او اكثر، وفي انتظار «كلمة سر» ما ستأتي من جهة ما، فإنّ ما يحكم الجميع هو انّ اليوم ليس كالبارحة، وان كان التاريخ يعيد نفسه في كثير من التجارب على مستوى التنافس والمماحكات بين مختلف القوى السياسية والسقوف العالية التي تسقطها «كلمة السر» المنتظرة، فما كان قبلاً لم تكن البلاد خلاله في انهيار مالي واقتصادي ومعيشي يصل الى حدود المجاعة كالذي تعيشه الآن. ما يعني انّ الذهاب هذه المرة الى فراغ رئاسي جديد سيكون مُكلفاً جداً على مستوى مصير الكيان برمّته، لأنّ أهمية وجود رئيس ليست في شخصه بحد ذاته وإنما لإصلاح النظام ولإنتاج سلطة جديدة فاعلة تعيد علاقات لبنان الى طبيعتها بمحيطه القريب والبعيد، وتعمل على إنتاج حلول جذرية للخروج من جهنم الانهيار. فلا نفع لرئيس، اي رئيس، اذا كان سيترأس دولة فاشلة ومؤسساتها مدمرة وينخرها سوس الفساد، وشعبها صار في غالبيته الساحقة تحت خط الفقر. ولذلك، العلة هي في الطبقة السياسية التي تدير البلاد خدمةً لمصالحها. فعن أي رئيس يتحدثون؟ والى أي فراغ ذاهبون يا ترى؟