21-06-2022
مقالات مختارة
|
نداء الوطن
بعد الجامعات، يأتي دور المدارس. وكأن براثن الدولرة لن توفّر قطاعاً من شرّها. الحديث عن فرض المدارس الخاصة تسديد الأقساط بالدولار، كليّاً أو جزئياً، بدءاً من العام الدراسي المقبل يتكثّف. ومعه تتلبّد غيوم إضافية في سماء القطاع التربوي الذي، إن كان ثمة أمل باقٍ في هذا البلد، فهو إحدى ركائزه. المدارس والأساتذة والأهل والطلاب على السواء في مهبّ المجهول. الأشهر القليلة المقبلة، كما يبدو، ستكون مفصلية. والصيف التربوي سيكون حارّاً.
نبدأ ببعض الأرقام. فقد بلغت موازنة وزارة التربية والتعليم العالي، في مشروع قانون موازنة العام 2022، 3 مليارات و388 مليون ليرة، أي ما نسبته 6.8% من نفقات الموازنة. في حين تبلغ موازنة التعليم الأساسي 15 مليار ليرة ونصف المليار. هنا أحد أسس المشكلة، مع عدم تخصيص أي مبلغ للحدّ من ظاهرة التسرّب المدرسي في ظلّ الواقع الحالي. وبحسب الدولية للمعلومات، تبرز مشكلة التسرّب هذه في لبنان في ظل ارتفاع نسبة الفقر التي تجاوزت الـ60% كما ارتفاع كلفة التعليم. ورغم أنه لا نسبة رسمية تحدّد التسرّب المدرسي، إلا أن الإحصاءات تشير إلى ارتفاعها من 6% قبل الأزمة إلى أكثر من 8% خلال السنة الحالية. وهي نسبة يُتوقّع ارتفاعها في العام الدراسي المقبل مع تفلّت الأقساط وعدم توفّر مدارس رسمية قريبة في معظم الحالات وارتفاع كلفة النقل.
الباحث في الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، يلفت إلى أن 65% من المدارس الخاصة تعتزم رفع أقساطها وفرض تسديد ما بين 25% إلى 35% منها بالدولار، وذلك بذريعة الاستمرار. وهذه بعض الأمثلة: مدرسة Well Spring فرضت، إضافة إلى القسط بالليرة، مبلغ 3950$؛ مدرسة الشويفات الدولية: 1500$؛ ليسيه نهر ابراهيم: 1000$؛ مدرسة الإخوة المريميين - الشانفيل: 900$؛ ليسيه ألفونس دو لامارتين - طرابلس: 900$؛ مدرسة مار يوسف قرنة شهوان: 850$؛ مدرسة القلبين الأقدسين - كفرحباب: 800$؛ ثانوية الراهبات الأنطونيات - غزير: 500$.
أرقام مرعبة ستكون حيالها الأسر اللبنانية العاجزة عن الدفع والتي تصل نسبتها إلى حوالى 70% أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التوجّه إلى المدارس الرسمية التي تعاني بدورها من نفاد قدرتها الاستيعابية أو عدم إرسال الأولاد إلى المدرسة من أصله. وهل من وصفة أكثر فعالية تؤدي بمن لا قدرة له على الجلوس على مقعد دراسي إلى الانحراف على أنواعه؟
المطلوب موازنات شفافة
تواصلت «نداء الوطن» مع رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة، السيدة لما الطويل، التي أكّدت رفضها كلّ ما يجري كونه خارج الأطر القانونية. فـ»دولرة الأقساط غير قانونية، وتحديد القسط قبل الفصل الأول من العام الدراسي الجديد وقبل تقديم قطع حساب إلى لجان الأهل من قِبَل المدارس هو أمر غير قانوني بدوره... أما ابتداع صندوق بالدولار منعزل عن الموازنة لا يجب أن يكون إلزامياً بل اعتباره صندوق تبرعات لمن يرغب من الأهل»، كما تقول. وتتابع: «لا شكّ أن المدارس مأزومة، كما الأهل والأساتذة، ولكي نحافظ على الصروح التربوية التي وثقنا بها وعهدنا إليها تربية أبنائنا، علينا أن نعترف بأن الزيادة بمفهومها العام حتمية في ظل الوضع الاقتصادي الراهن». كلّ ما تطالب به لجان الأهل دون أن تلقى تجاوباً من قِبَل إدارات المدارس هو اعتماد مبدأ الشفافية في كيفية تحديد هذه الزيادة. والسؤال هنا: هل المدارس مستعدة للتعاطي بشفافية والتعاون مع خبراء محلّفين يقومون بدرس قطع حساب الموازنات التي على أساسها تُحدّد المبالغ الواجب فرضها لتأمين الاستمرارية؟
كذلك، ماذا عن الأرباح التي حقّقتها المدارس الخاصة في خلال سنوات مضت؟ ففي حين يشكو البعض من حجز المصارف هذه الأموال، اتّجهت مدارس أخرى لتسديد قروض مشاريع الإعمار والتوسيع التي أطلقتها، مستفيدة من الأزمة الاقتصادية، في حين أن هذه الأموال تُعتبر، بحسب المادة الرابعة من القانون 515، أرباحاً مادية يجب أن تعود إلى الأهل.
سؤال آخر برسم المدارس: لم لا يتم إدخال الهبات والمساعدات التي تحصل عليها من الخارج، وبشكل غير مسبوق، ضمن موازناتها ما يساهم في تخفيض الأقساط؟ عن ذلك تجيب الطويل: «على وزير التربية إلزام المدارس تطبيق الاستشارة رقم 75 والتي تحتّم عليها التصريح عن كامل الهبات المقدّمة والإيرادات التي لم تندرج ضمن الموازنة (مثل رسوم فتح الملف، الزي المدرسي، القرطاسية، أرباح الكافيتيريا، وغيرها) لضمان عدم ارتفاع الأقساط بهذا الشكل المخيف». الحلول البديلة ليست سراباً، لكن العائق على ما يبدو يتمثّل برفض تقديم موازنات تقشّفية شفافة مدقّقة ومدروسة.
البيانات لا تُغني عن المحاسبة
بين مخالفات فاضحة وتقاعسات واضحة، نسأل الطويل عن دور الجهات الرسمية. فهل صمت وزارة التربية يعني أن لا صلاحية لها في الحدّ من التجاوزات؟ «لقد نصّت المادة 13 من القانون رقم 515 أنه، في حال وجدت مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية أن الأقساط المدرسية المحددة أو المفروضة من قِبَل المدرسة أو أن الزيادة على الأقساط مخالفة لأحكام القانون، تتم دعوة إدارة المدرسة إلى التقيّد بأحكام القانون تحت طائلة الملاحقة القضائية. في هذه الحال، تُحدّد المصلحة للمدرسة قيمة الأقساط أو الزيادة، وإن لم تلتزم وجب إحالتها إلى المجلس التحكيمي المختص بقرار من وزير التربية».
للأسف، المجالس التحكيمية لم تُشكَّل بعد إلا في محافظة جبل لبنان، وهي غير فعّالة أيضاً. إذ بالرغم من تعيين القضاة من قِبَل وزير العدل، وتحديد أسماء أعضاء المجالس، إلّا أنّ مرسوم تشكيلها لم يوقَّع من كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. ما السبب؟ لا ندري.
إزاء ذلك، تلفت الطويل إلى أن «الحلّ هو في إصدار وزير التربية تعميماً رسمياً يمنع فيه لجوء المدارس إلى الدولرة كما يفرض عليها دراسة موازناتها. فتصريحه منذ يومين لن يأتي بنتيجة، إلّا إذا تمّ اتخاذ إجراءات صارمة كسحب توقيع المدراء من المدارس المخالفة أو إغلاق بعضها». ثمة من يهمس هنا أن غياب الإجراءات يرقى إلى مستوى التواطؤ مع إدارات المدارس، عن قصد أو بدونه.
أين المجالس التحكيمية التربوية؟
أين وزارة التربية من كل ذلك؟ في اتصال لـ»نداء الوطن» مع رئيس مصلحة التعليم الخاص، السيّد عماد الأشقر، شدّد على ضرورة تطبيق القانون 515 الذي ينظر في كيفية تحديد الأقساط المدرسية. وأضاف: «حين أصدر الوزير التعميم رقم 23 منذ حوالى الأسبوع، حذّر خلاله من تطبيق المادة 13 من القانون على المدارس التي لن تلتزم القانون، والتي تعطي الحق لرئيس مصلحة التعليم الخاص الاستعانة بخبراء محاسبة متخصصين لتدقيق الموازنات، تحت مسؤولية الإحالة إلى القضاء». وهنا بيت القصيد. فكما ذكرنا، المجالس التحكيمية التربوية، التي تُعتبر محاكم خاصة مهمّتها ملاحقة كل من يخالف القانون رقم 515 معطّلة منذ العام 2016 باستثناء جبل لبنان. الأسباب: سياسية ربما كما بلغنا من أكثر من جهة متابعة.
الأشقر يروي ما حدث مع مدرسة الشويفات الدولية: «كان لنا تجربة معها وهي كانت من أولى المدارس التي اعتمدت الدولار في أقساطها، فقُمنا بسحب توقيع ثلاثة مديرين ولمدة سنة، بناء على قرار صدر مباشرة من الوزارة، لكن أين المجالس التحكيمية لمتابعة الملف؟... هناك 34 ملفاً في المجلس التحكيمي في جبل لبنان، لم يُنظر في أي منها للسنة الثانية على التوالي».
وعن مصير القطاع التربوي والطلاب الذين لا قدرة لذويهم على تسديد الأقساط، يشير الأشقر إلى أن «استهداف التربية هو استهداف للوطن، إذ لا ثروات أخرى يمكن الاتّكال عليها في لبنان. المدارس الخاصة كما الرسمية في خطر، وفي ظل الغياب التام لدور المجالس التحكيمية، من الأفضل أن يدرك الأهل مسبقاً القسط المترتب عليهم، وستكون المدارس الرسمية جاهزة لاستقبال أبنائهم دون إفادات».
والحال أن الوزارة شرعت بإعداد خطة للعام الدراسي المقبل لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلاب في المدارس الرسمية، كما تعمل على خطط استباقية لأن الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات لا سيما مع غياب سقف يلجم ارتفاع أسعار المحروقات. ويختم الأشقر: «نحن أمام خطر وجودي تربوي، وأمام مجاعة تربوية تهدّدنا. حري بنا أن نتكاتف كلبنانيين لتخطّي المرحلة، فنحن في مركب واحد وليس الوقت مناسباً لتبادل الاتهامات».
أبواب المساعدات... مفتوحة
للمدارس طبعاً وجهة نظر مختلفة. تحدثت «نداء الوطن» إلى رئيس مدرسة مار يوسف – قرنة شهوان، المونسنيور شادي أبو حبيب، الذي برّر الزيادة على الأقساط قائلاً: «صحيح أن القانون رقم 515 يجبر المدارس على تقاضي الأقساط بالليرة لكنه لا يلحظ واقع الأزمات، ونحن نعيش اليوم أزمة حادة. فالقانون ينص على تقاضي التكاليف بالليرة بينما نقوم نحن بتسديدها اليوم بالدولار». وإذ أكّد أبو حبيب أن الأرقام وُضعت بناء على دراسة تلحظ احتياجات المدرسة ومصاريفها بالدولار وزيادة 10% على راتب الأساتذة بالدولار، لم ينفِ حراجة الموقف الذي يرزح تحته الأهل مؤكّداً أن باب المساعدات الاجتماعية سيبقى مفتوحاً دوماً، كي يساهم المقتدر ويساعَد المحتاج.
التساؤلات والهواجس المطروحة محقّة مشروعة بمجملها، بحسب أبو حبيب. لكنه رأى أن ثمة ضرورة للنظر في وضع الأستاذ الذي لم يعد قادراً على الوصول إلى المدرسة بعد تدنّي راتبه إلى حوالى 100 دولار. فتثبيت جزء من راتبه بالدولار لا بد أن يشعره بنوع من الاستقرار. «هناك إغراءات كثيرة يتعرّض لها أساتذتنا من مدارس لديها القدرة على دفع رواتب أعلى نظراً للهبات الطائلة التي تصلها من الخارج. فإذا تدهور وضع الأستاذ سينتقل حتماً إلى مدرسة يتقاضى فيها أكثر. من هنا محاولة رفع الرواتب إذ من غير المقبول المساهمة في تدنّي المستوى التعليمي بسبب خسارة الأساتذة الكفوئين»، وفق أبو حبيب
سؤال يدور على ألسنة الكثيرين نقلناه إلى أبو حبيب حول دور الكنيسة وما إذا كان العلم قد تحوّل من رسالة إلى تجارة. ويجيب: «نحن ما زلنا على رسالتنا. ليس لدينا مدرسة للأغنياء وأخرى للفقراء وثالثة لمتوسّطي الحال. مدارسنا للجميع، لكن هناك مدارس تكاليفها أعلى ما يُترجم أقساطاً أعلى. نبذل جهدنا لتقديم نوعية التعليم نفسها في مدارسنا المجانية، لكن طبعاً بإمكانيات أقل. رسالتنا هي مع الفقير قبل أن تكون مع الغني، لكن يجب أن يكون للأستاذ حيّز منها أيضاً».
آراء وآراء مغايرة. لكن الوضع يراوح على حافة الكارثة التربوية التي لن يسلم أحد من شظايا انفجارها. هل هي خطة ممنهجة لضرب القطاع؟ وإن كان الأمر خلاف ذلك، ما عسى الذي يلوح في الأفق يكون؟ نشدّ الأحزمة لأن ذلك الأفق، أقلّه في المدى المنظور، مسدود.
أخبار ذات صلة