16-10-2020
مقالات مختارة
طلال خوجة
أدى مشروع قرار لوضع رسم على "الواتس آب" في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، الى تحرك بضع مئات من الناشطين باتجاه السرايا الحكومية (مقر مجلس الوزراء اللبناني)، واصطدم المتظاهرون على جسر الرينغ (الذي سيصبح من الأماكن الأشهر بالاعتصامات والمواجهات التي ستتحول إلى خطوط تماس بين المنتفضين وشبيحة "أمل" و"حزب الله"، يفصل بينهما الجيش اللبناني والقوى الأمنية) بحرس الوزير حينها أكرم شهيب الذين أطلقوا النار في الهواء لتسهيل مرور سيارته، إلى صب الزيت على نار الغضب الشبابي، الذي سيتأجج لينتشر كالنار في الهشيم ويخرج مئات ألوف اللبنانيين واللبنانيات في كل المناطق اللبنانية من بيوتهم نحو الشوارع والساحات.
في أيام قليلة، تحوّل البلد الى مختبر تُشحن فيه كل عوامل القهر والإذلال المكبوتة، لتتحول الى طاقة شبابية هائلة تنزع عنها ثوب الإحباط وتصرخ هادرة بوجه السلطة السياسية "كلن يعني كلن"، محمّلة إياها مسؤولية الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي الذي وصلت إليه البلاد، والذي وضع اللبنانيين على مشارف الجوع والبؤس، بعدما كان بلدهم يطلق عليه في أيام العز والازدهار لقب "سويسرا الشرق".
هكذا انطلقت انتفاضة الغضب التي سترسم طريقاً جديداً للشبان وللشابات ولعموم اللبنانيين المتعبين، وتعطيهم الأمل بالتغيير الاجتماعي والفكري والسياسي وبالخروج من المحنة والإحباط واليأس، بعدما توحّدوا ونفضوا عنهم غبار الفئوية والمذهبية والمناطقية التي لطالما أجّجتها الأحزاب الطائفية.
ومع أن بيروت و#طرابلس برزتا كجاذبتين رئيسيتين للحراكات الحاشدة، بيروت كعاصمة للانتفاضة وطرابلس أيقونتها، إلا أن كل المدن والبلدات الرئيسية ابتدعت أدواراً خاصة بها في الانتفاضة المجيدة.
هكذا تحوّلت ساحات المدن الرئيسية إلى عاميات تُنصب فيها الخيم ويحج إليها الناس من كل حدب وصوب، وتقام فيها النشاطات والحوارات والندوات التثقيفية، وتبتدع فيها أساليب نضالية لم يعهدها مناضلو الزمن الإيديولوجي برغم أنه كان يلقب بالزمن الثوري الرومنسي.
وقد برزت ظاهرة قدوم اللبنانيين من الخارج للمشاركة في النشاطات والإبداعات على الرغم من أنهم أقاموا نشاطات داعمة في المغتربات التي تمددت لها شرارات الانتفاضة.
وقد شهدت ساحتا #رياض الصلح والشهداء حشوداً كبيرة، وأقيمت فيهما نشاطات مميزة أظهرت قدرة الشباب اللبناني على النضال والإبداع، خصوصاً حين أعطوا نكهة خاصة للاستقلال في ذكراه وأقاموا احتفالاً جذاباً ومميزاً شارك فيه خليط متنوع يشبه النسيج اللبناني الجميل، بينما كان المسؤولون يهربون بميني احتفال في وزارة الدفاع، ما جعلنا نتذكر انتفاضة الاستقلال الثاني في 14 آذار (مارس) 2005 والتي أعقبت اغتيال الشهيد رفيق الحريري، حيث فاضت الساحتان بالملايين وامتدت الحشود الهادرة الى كل الشوارع المحيطة بوسط العاصمة النابض بلحظة لبنانية استثنائية.
وفاضت ساحة النور في طرابلس بعشرات الألوف، القادمين من جميع أحياء المدينة، ومن زغزتا وعكار وعموم الشمال للمشاركة بفعاليات الساحة المتنوعة، كما جذبت وفوداً كبيرة من ساحات صيدا وصور والنبطية وجل الديب والذوق وعاليه وبعلبك وبيروت، محاولين اكتشاف سحر العاصمة الشمالية التي جرى تنميطها كمعقل للتشدد والانغلاق.
وفي خضمّ هذا المدّ الثوري الفريد وغير المسبوق، لم يتنبه الشباب المنتفض للخطر المتعدد الرؤوس على انتفاضتهم الوليدة، خصوصاً من السيد حسن نصر الله الذي حذّرهم من أول الطريق، بأن لهم سقفاً يجب عدم اختراقه، ملمّحاً بتهم التخوين والتعامل مع السفارات، ومقفلاً الضاحية الجنوبية لبيروت وكثيراً من مناطق الدويلة عن متابعة المشاركة.
الخطر على الطبقة السياسية
فالانتفاضة بدلالاتها الكثيرة، وبعبورها للطوائف والمناطق، شكّلت خطراً على الطبقة السياسية كلها، بما فيها الثنائي الشيعي، برغم فائض القوة، وثنائي "ذمية مار مخايل" التي شكلت غطاء لتمدد سيطرة "حزب الله" على البلد من جهة، ولاستباحة مؤسسات القطاع العام المتداعية من العونيين الجشعين ومن باقي أطراف السلطة من جهة ثانية، خصوصاً بعد وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية على فوهة بندقية "حزب الله".
وللمفارقة الفاقعة الدلالة، فقد شهد اليوم الذي استقال فيه الرئيس الحريري كثمرة أولى للانتفاضة، عملاً تأديبياً للناشطين في ساحة الحرية على يد ما سيُعرف بجماعة الخندق أو جماعة "الدرّاجات النارية" الذين أغاروا على الساحة في صباح هذا اليوم، حيث دُمرت الخيم وضُرب الناشطون والناشطات، على مرأى ومسمع من القوى الأمنية في رسالة مزدوجة للانتفاضة وللحريري في آن، تظهر لمن الأمر في البلد، خصوصاً أن وزيرة الداخلية وقائد قوى الأمن الداخلي المحسوبين على الحريري أعلنا مراراً واجب حماية المتظاهرين السلميين.
وبرغم هوية المعتدين العارية، فإن معظم مجموعات الانتفاضة، بتلاوينهم المختلفة، تابعوا سياسة النعامة بتحييد الموضوع السياسي الأساسي المتعلق بتحكم "حزب الله" بقوة السلاح و"بشرعية" البرلمان المتكوّن من قانون انتخابي مذهبي عكس تحالف أقليات ضمنياً ومعلناً، كما عكس توازن قوى قائماً بالسلاح في بلد يحتاج أساساً لقوة توازن يعكس تميزه وتنوعه ودوره الجيوبوليتيكي الطبيعي كجسر بين الحضارات والتبادل الثقافي والتجاري. فهذا الدور أعطاه نفحة من جنة عدن، قبل أن تحوّله الصراعات الإقليمية والدولية والحروب الأهلية والاجتياحات الإسرائيلية والاحتلالات المتتابعة وفساد الطبقة السياسية وتبعيتها وطائفيتها، لجهنم صنعاء.
مع أهمية تناول قضايا كالعلمانية والدولة المدنية والنطام السياسي، إلا أن الطرق عليها من قبل البعض، ظهر وكأنه هروب إلى الأمام من قضايا السلاح والسيادة والاحتلال الإيراني بالوكالة والتهديد الوجودي في زمن التحولات والصراعات الكبرى وأطماع مثلث التماسيح، إسرائيل وإيران وتركيا في المنطقة العربية.
وقابله طروحات في الفدرالية تحت عناوين المركزية الموسعة واستسهال الحديث عن تغيير الدستور واتفاق الطائف، والذي يشكل في الواقع، سلاح اللبنانيين شبه الوحيد أمام أهوال التغيير في المنطقة التي تعيش على صفائح متقلبة وأمام سلاح "حزب الله" الفئوي والذي يخدم رعاة الحزب.
وإذا أضفنا مواضيع الصراع الطبقي وحكم المصرف، نرى أن اختراق "حزب الله" لجسم الانتفاضة أصبح "تحصيل حاصل"، خصوصاً أن عدم التمتع بالنفس الطويل من معظم المجموعات واستحضار "العنف الثوري" من بعض اليسارويين سهّل اختراقهم ودفعهم باتجاه التصادم مع الجيش ورجال الأمن الذين أفرطوا أحياناً في ممارسة القمع، كما في ممارسة أعمال عنف وتخريب ضد فروع المصارف، خصوصاً في طرابلس وبيروت، حيث اختلط الموضوع الطبقي بالحقد المذهبي المدموغ بالشعارات والهتافات، واكتملت خلطة الحقد مع تصريحات باسيل النتنة والعفنة الأخيرة والتي تذكرنا بمن قال مرة إن وسط بيروت "بكفيه تنكتي بنزين".
لقد استكانت الانتفاضة منذ تشكيل حكومة الباربي، وربما أدت جائحة كورونا وإقفال البلد دوراً في ذلك، إلا أن السبب الرئيسي يقع في عدم تحديد الخطر السياسي الأصلي المتمثل بسلاح الحزب.
وللأسف الشديد، فقد فشل اللبنانيون في تحويل جريمة المرفأ المروعة إلى قوة دفع بوجه السيطرة الإيرانية شبيهة بقوة الدفع التي خلقتها جريمة تفجير الحريري لإخراج القوات السورية المحتلة، برغم التغير في شعارات الانتفاضة لجهة تحميل "حزب الله" مع الآخرين مسؤولية الجريمة في تظاهرات الحساب، وبرغم الالتفاف الشعبي العابر للمناطق والطوائف مع بيروت المدمرة، وخصوصاً مع الأحياء المسيحية الأكثر تدميراً.
وتتحمل الأحزاب الميني سيادية والتي ساهم أداؤها السياسي بإنهاء وربما اندثار حركة 14 آذار، القسط الأكبر من المسؤولية في هذا الفشل، ذلك أنها هادنت وخضعت لفائض القوة من جهة، وتقوقعت داخل شرنقة المذاهب وغاصت في المحاصصة والزبائنية والفساد وغيرها من مغانم السلطة من جهة أخرى. إلا أن الموضوعية تقتضي القول أيضا إن نخب 14 آذار المستقلة لم تستطع تكوين قوة اعتراضية عابرة للطوائف توقف الانحدار المتمادي في ظل ميزان قوى إقليمي لمصلحة الممانعة، وفشل تجربة المجلس الوطني المستقل خير دليل.
لا نرغب بتوزيع الفشل أو المحاسبة أو حتى المقارنة بأهم محطتين من محطات البلد في تاريخه الحديث. جل ما نبتغيه من القراءة السريعة هو التفتيش عن عناصر القوة التي ما زالت تمتلكها الانتفاضة من أجل استكشاف وسائل التحرك التي تعيد الحشود السلمية إلى الساحات وتتقدم بالأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نحملها، خصوصاً إذا صوبنا الهدف السياسي الأساسي المتمحور حول سيادة البلد وحول التمسك بالدستور والقرارات الدولية.
ويكفي أن نرى التناتش في موضوع التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية بين الدولة الموازية القوية وحليفتها الدولة العونية الضعيفة، أما الدولة العميقة فهي غير مرئية، ما يعكس ضعف وارتباك الحركة السيادية عموماً. علماً أن الطرفين يقدمان عملياً أوراق حسن نية للراعي الأميركي بمواكبة إيرانية لصيقة، دعك من بيانات الثنائي الفارغة وبطولات باسيل الوهمية.
هذا في السياسة، أما في الاقتصاد والمال والاجتماع، فالنفاق سيد الموقف، إذ بعدما
صمّوا آذاننا بنظريات حول الاقتصاد الريعي والاقتصاد المنتج، سواء من "حزب الله" وحلفائه أو من بعض منظّري الانتفاضة، تجري منذ تشكيل حكومة الواجهة أسوأ عملية ريعية تحت مسمى الدعم بالقليل الذي يملكه البنك المركزي، وصولاً للمطالبة باستعمال الاحتياطي الإلزامي، وهو ما تبقى للمودعين الذين بددت السلطة السياسية الفاسدة والمصارف الطامعة والعاجزة أموالهم وجنى عمرهم، ما سيشكل خطراً على ما تبقى من القطاع المصرفي، فضلاً عن خسارة المودعين لـ"فلس الأرملة". علماً أن قرار عدم دفع اليوروبوند من دون خطة تفاوض مسبقة مع الدائنين شكّل طعنة غير مسبوقة في الموضوع المالي والمصرفي، حيث انهارت الثقة وبدأ معها انهيار العملة الوطنية المتسارع.
والجميع يعرف أن الدعم لا يذهب إلى المحتاجين والفقراء فقط بل لجميع المقيمين، فضلاً عن تلاعب بعض التجار الجشعين والتهريب المرعي في الاتجاهين، ما يجعلنا ندعم، على فقرنا، اقتصاد بلدين منهارين، وكان من الأفضل ابتداع وسائل الدعم التي تحمي المحتاجين اجتماعياً وتوقف الهدر والتبديد.
في ذكرى الانتفاضة، نأمل أن تشكل مناسبة لانطلاقة جديدة برغم الصعوبات المعيشية وأخطار جائحة كورونا التي تتهدد اللبنانيين، خصوصاً مع أزمة المستشفيات الخاصة والحكومية، وأزمة الدواء التي يفاقمها عجز الحكومة المستقيلة وعدم إحساس أطراف السلطة السياسية الملتهين بمصالحهم ومصالح رعاتهم بالمواطنين المعذبين، برغم كارثة مرفأ بيروت التي حرّكت معظم دول العالم وفي مقدمها فرنسا، علماً أن الرئيس إيمانويل ماكرون قال فيهم أكثر مما قاله مالك في الخمرة.
سبق أن قلنا، إن التمتع بالنفس الطويل هو الفضيلة الأساس في المواجهة الطويلة مع السلطة السياسية. فلن يسلّم المتحكمون بها مفاتيح البلد "للثوار" على طبق من ذهب كما توهم بعض القادة الملهمين في البداية، خصوصاً حين حيدوا موضوع السلاح على أساس أنه مقاومة، وركزوا على إعادة تكوين السلطة بانتخابات مبكرة، ذلك أن أي انتخابات مبكرة أو متأخرة لن تغير الكثير بوجود فائض القوة، والأرجح لن يسمح لها أن تقوم أصلاً إذا كانت ستغير بما يكفي. والأحرى أن نتنبه أن إعادة انتعاش الطرح المذهبي والفئوي واستحضار طروحات الفدرالية مواربة باسم المركزية الموسعة واستحضار طروحات الغلبة المغلفة بالدولة المدنية! سيشكل تحدياً كبيراً أمام إعادة الانطلاقة. ذلك أن انتفاضة تشرين نهضت على رافعة شبابية غير طائفية وتباهت بأنها أنهت الحرب الأهلية، وشكلت أملاً حقيقياً بالتغيير الاجتماعي، ما أعاد الحنين لليساريين الرومانسيين ولبعض فئات وبقايا انتفاضة 14 آذار المغدورة.
وبرغم ما يمكن أن يثيره هذا الكلام من إحباط، إلا أنه يؤكد أن الصعوبات لن تقف أمام المصممين على استعادة الزخم، إذ لا خيار آخر للبنانيين سوى الخروج من الجحيم مهما كلف من تضحيات، مع القبول بالعمل التراكمي والمتدرج لكسب الوزن السياسي والقدرة على التأثير المتصاعد في الحياة السياسية، بما فيه التأثير في صراعات السلطة والمعارضة، وبالتالي ضرورة توجيه الضغط لتشكيل حكومة اختصاصيين ومستقلين لتنفيد البرنامج المتفق عليه مع ماكرون، والاستفادة من الاهتمام الفرنسي ولو بدا كرشّ مياه خفيفة على كتل من اللهيب، مع التأكيد على توحيد الاستراتيجية، نحو المواجهة السلمية الواسعة للاحتلال الإيراني المقنع والتمسك بالطائف وبانتمائنا العربي الذي يشكل شبكة أمان لنا في عالم سريع التحول، كما التمسك بالحياد التلقائي ولكن الإيجابي لجهة حفظ الحقوق العربية وفي مقدمها الحقوق الفلسطينية، حتى لا نصبح وجبة خفيفة على طاولة الشّرهين الدوليين والمفجوعين الإقليميين حين يحين وقت الوليمة.,
أبرز الأخبار