29-01-2020
مقالات مختارة
نبيل هيثم
نبيل هيثم
تجيب عن هذه الأسئلة، قراءة ديبلوماسية لما سمّته «الاستحقاق الأميركي – الاسرائيلي»، بالإشارة بداية إلى انّه لم يكن مفاجئاً أن يحسم دونالد ترامب قراره بالإعلان عن «صفقة القرن» بعد عام ونصف عام على الترويج لها. الرئيس الاميركي اختار التوقيت المناسب لذلك، خصوصاً مع دخول الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عداً عكسياً يُقاس بالأشهر، ودخول ثالث انتخابات للكنيست الاسرائيلي عداً عكسياً آخر يُقاس حالياً بالأيام.
وعلى ما تلحظ هذه القراءة، فإنّ ثمة مؤشرات عدّة كانت تشي بأنّ ترامب، ومن خلفه نتنياهو، ماضيان قدماً في اتجاه هذه الخطوة:
أول هذه المؤشرات، ما قاله ترامب في الخطاب الذي ألقاه في البيت الأبيض بعد ساعات قليلة تلت الردّ الإيراني الصاروخي على اغتيال قائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني، حيث لمّح إلى الأمر عرضاً في معرض الحديث عن تضاؤل احتمالات الحرب في الشرق الأوسط.
أما المؤشر الثاني، فتمثل في الزيارة التي قام بها مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط آبي بيركوفيتش إلى إسرائيل قبل أيام، واجتماعه بنتنياهو ورئيس تحالف «أزرق أبيض» بيني غانتس، حيث تمّ البحث في إمكانية الإعلان عن تفاصيل الخطة الأميركية.
لكن الأهم مما سبق، كما تشير القراءة الديبلوماسية، هو أنّ ترامب، شأن أسلافه، يريد اليوم الاستثمار السياسي في الشرق الأوسط إلى أقصى حدود ممكنة، لتحقيق هدفين انتخابيين رئيسيين:
– الأول، هو إظهار بعض «النجاحات» في السياسة الخارجية، بعدما أظهر خلال السنوات الماضية فشلاً في مختلف الملفات، وقد يكون أهمها الملف الذي غالباً ما يثير حساسية النخبة الأميركية منذ الحرب الباردة، وهو تعاظم الدور الروسي، الى جانب ملف آخر، يثير هذه المرة حساسية القاعدة الانتخابية (الجمهورية)، وهو ملف العلاقات مع الصين، والحرب التجارية، الذي تمكّن من احتوائه أخيراً عبر ما وُصف بـ«اتفاق الهدنة» بين واشنطن وبكين.
ومن خلال إعلانه عن «صفقة القرن»، يستطيع ترامب اليوم أن يفاخر أمام راديكاليي مجموعات الضغط في الولايات المتحدة، عبر الانتقال من صورة «الرئيس ـ البراغماتي» إلى صورة «الرئيس ـ الصقر» المستعد للذهاب بعيداً في المواجهة الشرق اوسطية، ابتداءً من اغتيال قاسم سليماني، وصولاً إلى كسر محرّمات التسوية الفلسطينية – الاسرائيلية.
– الهدف الثاني، هو تجاوز الحصار الداخلي الذي يفرضه الديموقراطيون عليه، وقد بلغ ذروته في دعوى «العزل»، على خلفية «فضيحة أوكرانيا»، بكل التداعيات الانتخابية لهذه الجلبة، التي تجعل الرئيس الاميركي لا يمتلك خياراً إلاّ الهروب إلى الأمام على حساب الطرف الأضعف في السياسة الخارجية، أي الفلسطينيين.
بذلك، كما تؤكّد القراءة الديبلوماسية، تلاقت مصالح ترامب ونتنياهو، خصوصا أنّ الأخير يواجه حصاراً داخلياً مماثلاً، بعد توجيه تهم الفساد إليه من جهة، وعجزه عن تشكيل ائتلاف حكومي يحميه من السجن، ما يجعل الانتخابات الثالثة للكنيست ملاذه الأخير لتكريس الحصانة القضائية، وهو ما يتطلب فوزاً كبيراً، لا يمكن تحقيقه إلاّ من خلال «إنجاز» على مستوى «صفقة القرن».
وبإعلان ترامب عن «صفقة القرن»، يستطيع نتنياهو أن يفاخر بأنّه انتزع خطة اميركية تستبعد إقامة دولة فلسطينية، وتعطي الضوء الأخضر لضمّ الكتلة الاستيطانية بما يتماشى مع الإجماع الإسرائيلي، إلى جانب ضمّ الأغوار، وفرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية، ونقل السفارة الأميركية إلى مقرّ دائم في القدس
مع ذلك، لا ترجح القراءة الديبلوماسية أن تمرّ «الصفقة» بهدوء. فحتى داخل الولايات المتحدة ثمة من يرى أن لا مبرر لإعلان «صفقة القرن» الآن. وهو رأي الخبراء والسياسيين الاميركيين، حتى الأكثر انحيازاً لإسرائيل، أمثال دانيال شابيرو الذي شكّك بخطوة ترامب، على اعتبار انّه «لا توجد حكومة في إسرائيل يمكن التعامل معها، وما نعرفه أنّ الفلسطينيين سيرفضون الخطة فور إعلانها». أو مارتن انديك مساعد وزير الخارجية السابق للشرق الأوسط ومبعوث عملية السلام، الذي رأى أنّ «تصميم ترامب على إعلان «صفقة القرن» قبل انتخابات إسرائيل ومن دون طرف فلسطيني، دليل على أنّها ليست خطة للسلام، بل هي لعبة هزيلة من بدايتها الى نهايتها».
مع ذلك، فإنّ القراءة الديبلوماسية ترى أنّ حرباً وجودية كتلك التي يخوضها ترامب ونتنياهو ضد معارضيهما، قد تدفعهما إلى السيناريوهات الأكثر تطرفاً، عبر إثارة الأزمات، كشكل من اشكال الهروب إلى الأمام. ومما لا شك فيه أنّ تكتيكاً كهذا، إن اتُبع، سيصوّب خصوصاً على اسهل النقاط الرخوة، التي يمكن من خلالها تحقيق أقصى المكاسب، بأقل الخسائر الممكنة، لا بل في الحالة «الترامبية»، ثمة حاجة إلى أن تجري العملية بـ«صفر خسائر».
هنا، تشير القراءة الى مخاوف من أن يكون لبنان إحدى تلك النقاط الرخوة التي يمكن من خلالها تسويق «صفقة القرن» وفرضها كأمر واقع.
جدير بالتذكير هنا، انّه قبل عام بالتمام، كانت إحدى المراكز البحثية في بيروت تشهد حواراً بين مختصين في الشأن الفلسطيني حول تداعيات «صفقة القرن» على الفلسطينيين وجيرانهم. حينها خلصت النقاشات إلى الآتي:
– أولاً، من المنطقي القول إنّ الفلسطينيين هم المتضرّر الرئيسي من «صفقة القرن»، ومن هنا يمكن فهم الموقف الفلسطيني الموحّد الرافض لها رفضاً قاطعاً.
– ثانياً، الأردن سيقع عليه العبء الأكبر، الذي يقارب الخطر الوجودي، كونه «الوطن البديل» المُحتمل للفلسطينيين.
– ثالثاً، مصر ستكون مضطرة الى تقديم كثير من الأثمان، التي تتجاوز التخلّي عن بعض من أراضيها في سيناء، لتصل إلى احتمال توطين عدد كبير من الفلسطينيين على أرضها.
– رابعاً، لبنان سيكون مستهدفاً بـ”صفقة القرن» بالتأكيد، لكنّ المفارقة تكمن في أنّ تداعياتها عليه قد تكون أخطر وأقسى مما قد يلحق بدول الجوار المستهدفة بالصفقة، وتحديداً في مسألة فرض توطين الفلسطينيين، على رغم من أنّ المناخ العام في المخيمات الفلسطينية يجعل ساكنيها يختارون الرحيل عن لبنان إذا ما قُدّر لهم ذلك، بالنظر إلى افتقار الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى الحد الأدنى من الحقوق المدنية.
وأما الخطورة الكبرى والحقيقية فلا تكمن فقط في أصل التوطين الذي أجمعت كل القوى اللبنانية على رفضه، بل في طريقة فرضه على لبنان، ووضع هذا البلد الصغير امام احتمالات صعبة، ولعلّ أشدّها خطورة أن يكون تفجير الوضع الداخلي في لبنان، بوابة لإمرار الصفقة الأميركية، خصوصاً أنّ للبنان تجارب كثيرة في هذا الإطار، حين يتعلق الأمر بإمرار الصفقات الإقليمية الكبرى.
ولعلّ أقرب أمثلة على ذلك، ما حصل عام 1975، حين التهى العرب بالحرب الأهلية في لبنان لإمرار اتفاقية سيناء وبعدها كامب ديفيد، وما جرى عام 1982، حين تحوّل الاجتياح الإسرائيلى للبنان الأساس الذي بُني عليه المسار اللاحق الذي قاد إلى أوسلو.
يبقى انّ ما بين 28 كانون الثاني 2019 و28 كانون الثاني 2020 تغيّر الكثير في لبنان. دخل البلد بالفعل في نفق المجهول، يترنح بين انفجار اجتماعي وانهيار اقتصادي وفوضى سياسية… في هذه اللحظة بالذات يأتي الإعلان الأميركي عن «صفقة القرن» ليزيد المشهد قلقاً واضطراباً!