25-06-2018
تقارير
الشيخ دانيال عبد الخالق
الشيخ دانيال عبد الخالق
ما أكتبه أقرب الى التوضيح منه الى المقال، ففي قناعتي أن إثارة موضوع مضى عليه مئات السنين -ولو كان بطبيعته لا زال معاصرا- يُقصد منه استخلاص العبر لا نبش القبور ولا إيقاظ الفتنة، وما تعلّمته من إسلامي ومسلكي التوحيديّ ونهج السلف الصالح أن إطفاء النار لا يكون عبر مواجهتها بنار مقابلة فيزداد اضطرامها، بل تُسكب عليها مياه من الحلم وتوضيح الحقيقة بموضوعية خالصة لا تحمل في طيّاتها غايات أو خبائث.
تلقّيت اتصالا من أحد البرامج الفضائية في آخر اسبوع من شهر رمضان الكريم يطلب مني تعليقا مباشرا على الهواء حول فتوى الشيخ تقي الدين إبن تيمية (توفي سنة 1328م) حول الدروز، وهي فتوى تُقصي الموحدين(زورا وظلما) عن بيئتهم الإسلامية لأسباب سياسية ظرفية سأوضحها في سياق هذا التوضيح، فما كان مني إلا أن أوضحت ما أعلمه عنها بأسلوب علمي خالص دون تهجم أو تجريح أو تكفير مضاد، وذلك التزاما بمنهجنا التوحيدي اي مقابلة النار بالماء لا بالنار، وكذلك انسجاما مع مسيرتي الأكاديمية البحثية، لأكتشف بعد ذلك أن ادارة البرنامج اكتفت بنشر نص الفتوى التكفيري دون أن تنشر كلامي. وبسبب انتشار هذا الفيديو الذي يتضمن هذه الفتوى وما يُثيره من شعور سلبي يزيد من التفتيت في مجتمعنا المتنوع، وجدت أن أكتب رأيي حولها خصوصا بعد أن طلب مني ذلك بعض أولي الرأي والمسؤولية.
في الأسلوب اعتمدت على نقطتين:
- واحدة منهجية تتعلق بالمبررات التي استعملها إبن تيمية لإصدار هذه الفتوى، وهي أفعال قام بها محمد نشتكين الدرزي الذي قتله الموحدون لارتداده عن الاسلام وقيامه بمخالفة الشرع، فيكون الشيخ إبن تيمية عمم افعال فئة قليلة ضالة على جماعة مسلمة مؤمنة محسنة سطرت في تاريخ الأمة والمنطقة انجازات لم يُوفَّق أحد في نكرانها أو التعمية عليها.
- نقطة أخرى عبر مقابلة نص هذه الفتوى بسلوك الشيخ إبن تيمية شخصيا، ليتبيّن أن هذه الفتوى ظاهرها ديني وباطنها سياسي يخدم سلطة المماليك، وذلك استنادا الى المراجع التاريخية الموثوقة مثل كتاب صالح بن يحيى "تاريخ بيروت" وكتاب "الشيخ تقي الدين إبن تيمية" للدكتور أحمد حطيط.
وفي الوقائع التاريخية والسياسية أن منطقة العصيان التي توجهت اليها الحملة المملوكية بقيادة الأفرم لجيش من دمشق وصحبة الشيخ ابن تيمية شخصيا، كانت تضم -بحسب رسالة إبن تيمية للسلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون- كانت تضم "الإسماعيلية، والنَّصيرية، والحاكميَّة، والباطنيَّة، والإماميَّة الاثنا عشريَّة والتيامنة (الدّروز) وطائفة من المسيحيّين" (وقد نالت كل هذه الفرق نصيبها في فتاوى الشيخ إبن تيمية من التكفير أو تبرير القتل لأهل الكتاب بذريعة التعامل مع الغزاة وعدم دفع الجزية).
ولضيق المساحة هنا سأذكر التناقض الواضح المتعلق بالموحدين الدروز فقط حيث أن الأمير التنّوخي ناصر الدين بن الحسين شارك جيش المماليك في حملتهم وبوجود الشيخ إبن تيمية، رغم أن الفتوى تحرم اصطحاب الدروز ومشاركتهم في كل النواحي، لنستنتج بما لا يقبل الشك أن الشيخ إبن تيمية كان يُفتي لخدمة السلطة ويُبطل مفعول فتواه على الموالين للسلطان. فالدروز المعارضون لَم يُرحَم منهم لا شيخا كبيرا ولا طفلا صغيرا تحت الذرائع الدينية، والدروز الموالون كانوا محط تكريم وشكر وتقدير.
بعد الإنتهاء من التوضيح لا بدّ لي أن ألفت نظر القارئ الى معرفتي بتأثير وقع هذا الكلام على المتأثرين بكلام وعلم ومؤلفات الشيخ إبن تيمية، وقد يكون هذا هو سبب سكوت من سلفوا من علماء ومشايخ طائفة الموحدين عن التعليق على هذه الفتوى درءا للفتنة والتناظر في ما لا ينفع الأمة بل يزيدها تفتّتا وضعفا مما يُشكل أكبر خدمة للمتربصين بنا وثرواتنا ومقدراتنا، آملا أخذ الظروف التي فرضت عليّ هذا التوضيح بعين الإعتبار، مؤكدا قناعتي أن مجهودنا الأكبر لا بد أن يبقى في العمل على توسيع المساحات القِيّمّّة الإنسانية التي تكفل كرامة الإنسان في هذه البقعة من الأرض، وتكفل حقّه في المواطنه العادلة وفق الدساتير العادلة التي تكفل حرية المعتقد الديني وتترك الحساب الى رب العالمين، لأن أكثر ما يهدّد قناعة الناس بالأديان في هذا العصر هو عجز القائمين عليها عن اقامة العدل بكل مستوياته في مجتمعاتهم، بينما تُسجّل السنوات المتوالية تطور الدول المدنية التي تعتمد القوانين الوضعية تطورا مستمرا يضع المراقب أمام استنتاجات قاسية على ابناء المجتمعات الثيوقراطية.
وأختم بالقول أنه لمن المؤسف أن ننظر الى أنفسنا كأمّةٍ عربية فنرى أننا لا زلنا مُلزمين كل فترة أن نتكلم ونناقش مواضيع دينية وإيمانية، او أحداث لها صلة بها حتى ولو مضى عليها مئات السنين، ونجهد أنفسنا في البحث والتبرير، بينما أممٌ أخرى تنظر الى الفضاء وترسم الخطط الاسترايجية للمستقبل القريب والبعيد.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار