19-06-2018
مقالات مختارة
ندى ايوب
ندى ايوب
ارتباك وعدم ارتياح باديان على وجوه كل من التقيناهم للسؤال عن الطريق المؤدي إلى منزل عائلة الفقيد. رجل يترحم على الشاب الراحل ويرشدنا إلى كنيسة مار عبدا حيث تُقبَلُ التعازي. لا أحد يملك القدرة على تفسير ما جرى والعائلة تنتظر نتائج التحقيقات لربما عثرت على طرف خيط يُفَسِرُ حادثة انتحار ابنها الذي “لم يكن يعاني من اي مشكلات تذكر”، كما ردد عارفوه على مسامعنا.
المحطة الأولى كانت كنيسة مار عبدا، هناك تتقبل العائلة التعازي بفيقدها الشاب، نسوة من القرية يقفن أمام مدخل الكنيسة يتشحن بالسواد. هنَّ إما جارات إما قريبات العائلة الفجوعة. إحداهن سيدة خمسينية تخبرنا أن الفتى المهذب الوسيم “رحل وأخد سره معه”. أحد لا يجد تفسيراً لواقعة إنتحاره “يعيش في كنف عائلةٍ مترابطة بعيدة عن الأزمات أو التشنجات. أبوان حريصان على توفير الراحة له ولشقيقه الوحيد”. تسأل السيدة نفسها “ابن الخامسة عشر لماذا يقدم على الانتحار؟ هو في سن لا يعاني معه من ضغوط مادية أو عاطفية أو مهنية ولا حتى عائلية!”.
علامة استفهام كبيرة تحوم حول انتحاره، أحد في العائلة أو القرية لم يتمكن من فك شيفرتها. من الكنيسة توجهنا إلى منزل الفقيد وبواسطة “انترفون” المبنى تمكنا من الحديث مع ابنة عمه المتواجدة في منزل والديه، والتي نقلت لنا عدم رغبة الأهل بالتحدث في الوقت الراهن “عمي وزوجته متعبان ونائمان ويفضلان عدم التكلم”. عند مدخل المبنى التقينا صدفةً بقريبة أخرى، فضلت عدم الغوص في تفاصيل الحادثة وحياة الفقيد مكتفية بالقول: “وقع الخبر كالصاعة علينا، صدمنا جميعاً، خاصة أن الراحل لم يكن يعاني من أي مشاكل نفسية أو اجتماعية”.
حركة كثيفة عند المدخل وفي محيط المبنى. سيدة من البلدة تقف على بعد أمتارٍ تنتظر زوجها للصعود ومواساة العائلة المحزونة. لا تعرف بعد حيثيات الحادثة فهي ما ان وصلها الخبر أتت على عجل. تؤكد لـ”النهار” أن “الشاب ينتمي الى عائلة مؤمنة تواظب على الصلاة في الكنيسة. عائلة محترمة ما من اشكال يُذكَر بينهم وبين أهل البلدة، لا أعداء لهم. لا خلافات”. الأقارب والجيران والمحبون مروا من جانبنا رجالا ونساءً قاصدين العائلة. وعلى طريق فرعي، يقف شاب، ابن عم الفقيد، وجاره في السكن في المبنى الذي تمتلكه عائلتهم. حاله كحال أهل رومية عامة والعائلة الصغيرة خاصة. ذهول وصدمة وأسئلة كثيرة لا اجابات لها تدور في الرؤوس. وفي دردشة مع “النهار”، يوضح أن “البيت الذي نشأ وترعرع فيه الفقيد شأنه شأن أي بيت لبناني يعيش ضغوط الحياة المعيشية الطبيعية لا شيء فوق العادة يستدعي من ابن عمي الإقدام على الإنتحار”. اجتماعيا ايضا لم يكن الوضع سيئاً فـ”الشاب لم ينزوي اجتماعيا وحتى اللحظة الأخيرة من حياته كان برفقة أخي الأصغر الذي دعاه لحضور مباريات كأس العالم حوالي الساعة الثامنة من مساء الاحد الا أنه فضّل الذهاب. ذهب ولم يعد. ومع تاخر الوقت افتقدت الوالدة ابنها فهو خارج المنزل تاركا محفظته وهاتفه، سألت شقيقه عنه لكنه لم يكن يعلم بمكانه، اشتد القلق عندما انتبهت العائلة الى فقدان مسدس جده المتوفّى. كثفت العائلة ومعهم اهالي البلدة عمليات البحث وبحلول الساعة الثانية فجرا وقعت الفاجعة بعد العثور عليه ممددا في حرش على بعد أمتار من منزله، مصاباً بطلق ناري في رأسه. ج. ح. انتحر كما افاد تقرير الطبيب الشرعي
الحوت الأزرق؟
فرضيات كثيرة تطرح مع كل حادثة انتحار ولعبة “الحوت الأزرق” طُرِحَت مع موت (ج. ح.). فرضية لم يستطع ابن عمه تأكيدها أو نفيها لعدم علمه بحقيقة الأمور بانتظار ما ستكشفه تحقيقات مخابرات الجيش بعد فتح هاتفه الخلوي. صحيح أن “حياة الراحل الدراسية لم تكن مستقرة بعد رسوبه لأكثر من مرة في المدرسة” بحسب ابن عمه إلا أن الأخير يستطرد بالقول: “معظمنا عانى في فترات عمرية معينة من مشكلات دراسية. وابن عمي واحد منا وعلى العكس لم ينهزم بل بدأ بدراسته المهنية التي أحبها واختارها ومع بداية فصل الصيف استلم عملاً جديداً في أحد المطاعم المعروفة في برمانا، يهتم بمظهره الخارجي ويلتقي برفاقه باستمرار”. كافة المؤشرات اذاً لا تدلل على انتكاسة نفسية لدى ابن الخامسة عشر ومعها تزداد الامور تعقيدا وتكبر حيرة العائلة وصدمتها كحال شقيقه الذي لا يزال تحت وقعها. فأين القطبة المخفية؟
على بعد أمتار قليلة من مكان سكن (ج.ح.) ومن خلال طريق فرعي غير مخصص للسيارات عبرنا الى حرشٍ اعتاد الفقيد ان يقصده لممارسة هواية صيد العصافير. لا رحلة صيد هذه المرة بل رحلة ابدية لا عودة بعدها ولأسبابٍ لا زلنا نجهلها. الحرش كثيف الاشجار ومتداخل مع احراش اخرى كغالبية احراش رومية، هنا يسيطر الهدوء وتشعر بهيبة المكان فقبل ساعات فقط قرر أحدهم الرحيل في قرار يصعب على المرء اتخاذه بسهولةٍ فكيف بشاب لم يبدأ بعد مسيرة الحياة الشاقة.
العائلة تنتظر نتائج التحقيقات، مراهنةً على معلومةٍ ما قد يُعثّرُ عليها في هاتف ابنها الخلوي تساعدها على فهم بعض مما دار في مخيلته وتسبب في انتحاره. نترك رومية غارقة في أحزانها تتحضر غدا للوداع الاخير عند الساعة الخامسة في مدافن البلدة، وننتظر مع أهلها اتضاح الصورة، راجين أن نتوقف عن عد حالات الانتحار في بلادنا التي تحصد خيرة شبابه.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
حوار افتراضيّ على ضفّتَي نهر أيلول اللبنانيّ
مقالات مختارة
لماذا لا تتشكّل معارضة وطنية؟
مقالات مختارة
بعد سوريا… ايران تخسر لبنان والعراق؟
مقالات مختارة
شيء يفوق الخيال
مقالات مختارة
خواء انتصارات حزب الله أو الهزيمة النكراء
محليات
بري: الحمد لله.. بعدنا طيبين