مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

زمن ميّ عريضة : لبنان المهرجان

13-05-2018

تقارير

شادي معلوف

شادي معلوف

انطفأت ميّ عريضة، شأنها شأن كوكبة ممّن جايلها من سيدات ورجالات لبنان الذين عاصروا صعود الجمهورية الصغيرة الناشئة على ضفاف المتوسط بعد استقلال عام 1943.

غابت السيدة الارستقراطية، بعدما شهدت الزمن الجميل في وطنها، لا بل بعدما ساهمت في رسم جانب من تفاصيل ذلك الزمن من موقعها الفاعل مع سيدات لجنة مهرجانات بعلبك الدوليّة، والتي كانت واحدة من مؤسِّساتها في زمن البدايات تحت رعاية الرئيس كميل شمعون وقرينته زلفا ثابت اللذين اضافا على لبنان مسحة من سحر وتألق عرفها بين عامَيْ 1952 و 1958 .

تشعر وانت تستعيد سيرة ميّ الخوري سعادة انّ ثمّة قدرًا رسم مفاصل حياتها حتى غدت ما أصبحته من وجه أيقونيّ للبنان المهرجان. وفيما تفلفش أوراق حياتها، تمرّ أمامك أسماء لشخصيات واكبتها وعاصرتها ورافقتها في لبنان وخارجه فتكتمل الصورة عندك .. صورة زمن كامل من عزّ وذهب وماس وأضواء وسهر ومال وسياسة ورقيّ وكياسة .. زمن مضيء أسقطته حرب عام 1975 في الظلمة على مراحل، حتى أصبحنا ما صرنا عليه في زمننا الحالي.

ففي سيرة ميّ الخوري سعادة، تقع على طفلة دللها والداها فأضحت مراهقة شقيّة تتمتّع بمباهج الحياة برفقة شقيقها رينيه. في الصيف سباحة وفي الشتاء تزلّج. وبين بحر وجبل تكبر الطفلة وتصير صبيّة شقراء حلوة، فتغدو زوجة لسليل أسرة ارستقراطية، وتقيم مع زوجها الأول ابراهيم سرسق في أحد قصور السراسقة في الاشرفية. حياة زوجية لم تختلف بناسها ومعارفها ونمط عيشها عما خبرته في بيت أهلها، بل ثبّتت حضور ميّ في المجتمع وفي صلب الطبقة البورجوازية. نمط حياة ميّ جعلها نجمة من نجمات الأمسيات الفنية والاجتماعية والسياسية، ففُتِحت امامها الابواب مشرّعة، وصارت عشيّة الاستقلال مساعِدة الجنرال البريطاني إدوارد سبيرز ومديرة مكتبه في بيروت. لم يقتصر حضور ميّ الخوري سعادة على الصالونات والقصور والمناسبات اللبنانية بل طافت مع زوجها في دول الشرق والغرب ونسجا علاقات اجتماعية مع عليّة القوم فيها، وفي مصر حلّا ضيفيْن على قصر فاروق الاول ملك مصر والسودان الذي دعا السيدة الجميلة لمشاركته رقصة ملكية. إقامتها وزوجها في مصر لم تطل، إنّما غادرا القاهرة هاربيْن من نظرات فاروق ومآربه ورغباته.

لن تمرّ زيارة ميّ وزوجها الى قريبتها زلفا ثابت وزوجها كميل شمعون في لندن ذات يوم من 1947 مرور الكرام. فخلال عشاء جمع الاربعة بعد حضورهم مسرحية غنائية، قال شمعون الذي كان مزمعًا ان يترشح الى انتخابات الرئاسة اللبنانية، إنه إذا وفّقه الله ووصل الى الرئاسة في لبنان سوف يُنشىء مهرجانًا سنويا بين هياكل بعلبك يستضيف فيه لبنان ما يشبه المسرحية التي حضروها في تلك الليلة. 

مرّ عقدٌ من الزمن قبل ان يتحوّل الحلم الى حقيقة وتولد مهرجانات بعلبك بقرار من الرئيس شمعون وبهمّة لجنة من سيدات ورجالات لبنانيين بارزين كانت مي واحدة منهم. ويعود لتلك اللجنة إقامة الليالي اللبنانية ضمن امسيات المهرجان الدولي بدءًا من العام 1957.

تألقت مهرجانات بعلبك الدولية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين حتى انتصافها، ومعها كانت الست ميّ، التي أضحت ميّ عريضة إثر زيجتها الثانية من كارلوس عريضة، تتألق بدورها اجتماعيًا وحضورًا بين اعضاء لجنة المهرجان حتى غدت رئيستها لأكثر من ثلاثة عقود انتهت بتسميتها رئيسة فخرية لها بعدما آل المنصب الى السيدة نايلة دو فريج.

صحيح ان المهرجان غاب عن القلعة لأكثر من عقدين من الزمن لكن اللجنة بقيت. واستمرت ميّ عريضة تمنّي النفس بإعادة حلّة الفنّ والسهر والفرح الى صيفيات القلعة. وهذا ما كان بعيد انتصاف تسعينيات القرن العشرين، فاستطاعت بما حافظت عليه من علاقات مع فناني لبنان والعالم اعادة المهرجان الى قلعته. 

وبين مهرجان وآخر لم يخفت ضوء سيدة المهرجان ميّ عريضة، التي ظلّت عطرًا من زمن جميل راقٍ، تنثر حضورها الارستقراطي في مناسبات اجتماعية وسياحية وفنيّة، محافظة على نمط حياة اعتادت عليه وأحبّته. فكنتَ تجدها شتاءً بين ثلوج جبال لبنان، وصيفًا في مياه شواطئه، تمارس هوايتيْها الأحب التزلّج والسباحة. وبين الشاطئ والجبل كانت تجد متّسعًا من وقت لممارسة مهامها الادارية واللوجستية في لجنة مهرجانات بعلبك، والمؤسسة الوطنية للترات، واتحاد التزلج على المياه، ولجنة دعم جنوب لبنان (عيتا الشعب)، والمعهد الوطني العالي للموسيقى، والشبيبة الموسيقية اللبنانية، اضافةً الى النشاطات والمساهمات الخيرية والاجتماعية.

حضور وجمال وتألق وانجازات استحقت عنهم ميّ عريضة تكريمات وميداليات وأوسمة من أرفع الدرجات ومن أيدي كبار المسؤولين والشخصيات من فرنسا وايطاليا وإسبانيا ولبنان ودول أخرى. 

 

يودّع لبنان السيدة ميّ عريضة، وككلّ الراحلين من قماشتها تأخذ معها جزءًا من تاريخ مشرق عاشته بلاد الارز في لحظة تجلٍّ لم تدُم طويلاً. يدفن اللبنانيون مع الست ميّ، كما دفنوا مع بنات وابناء جيلها الذين سبقوها ويكاد عقدهم يكتمل هناك في العالم الآخر، لوحة جميلة كان فيها بلدهم مجلّلاً بقوس قزح لوّنه لبرهة قبل ان ينحسر وتحجبه غيومٌ داكنة من انحدار وتعصّب وتراجع ثقافيّ وفنيّ وأخلاقيّ وسياسيّ.

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما