تدخلات السلطة تهدّد الانتخابات
«إنها الفوضى». يصحّ هذا التوصيف للهستيريا التي تسود معظم المناطق اللبنانية، عشية الانتخابات النيابية. تدخلات ورشىً وضغوط واستقدام مغتربين. استخدام فاجر للأجهزة الأمنية. الرئاسات والوزارات والإدارات الأساسية تتحول إلى مكاتب انتخابية. إشكالات أمنية يومية. السؤال المطروح عن سرّ هذا التوتر وهل هو تعبير عن تراجع شعبية هذا التيار أو ذاك، أم بسبب عدم قدرة على تمويل الانتخابات، وهل هناك من موّال أكبر؟
أرقام قياسية في الخروق الانتخابية، ولا من يسأل، ولا من يجيب. كل من يعترض لدى رئيس هيئة الإشراف على الانتخابات نديم عبد الملك، يأتيه الجواب بأن الهيئة تفتقر إلى الصلاحيات، ولا يمكنها سوى أن توثّق، وبمقدور كل معترض أن يطعن في النتيجة بعد الانتخابات، مستفيداً من هذا التوثيق!
نعم، هي دعوة بصريح العبارة من أحد القيّمين على الانتخابات إلى أن يزوّر من يريد أن يزوّر، وأن يخالف من يريد أن يخالف. لا حسيب ولا رقيب. من عكار إلى بنت جبيل، مروراً بالعاصمة وطرابلس وجبل لبنان والبقاع، مخالفات بالجملة والمفرق، لكن الأخطر منها هو الافتعال المنظَّم لإشكالات أمنية، وخصوصاً في العاصمة.
أرقام قياسية في الإشكالات تطرح أسئلة كبيرة ولا تجد لها مطرحاً في طيّات تقارير الهيئة الاستنسابية (عفواً هيئة الإشراف على تزوير الانتخابات)، بدليل أن مشاهد حفلة الجنون الانتخابي المتمدّدة أفقياً من منطقة إلى أخرى، والتي تتشارك فيها الرئاسات والوزارات وكل مكونات السلطة وأجهزتها الأمنية، لا تجِد من يوقِفها في لحظة إقليمية دقيقة لا تحتمِل المغامرات أو أي تفريط بالأمن والاستقرار.
أقل من ثلاثة أسابيع تفصل البلد عن موعد إجراء الانتخابات النيابية في 6 أيار المُقبل. الممارسات «القمعية» و«الزعرنات» تتصاعد يومياً بلا أية محاسبة. يتهم أحد المرشحين وزير الداخلية بأنه «أزعر» على الهواء مباشرة. تضجّ مواقع التواصل بالصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية. عيّنة لا تستحقّ وقفة من أحد.
تُحجز طائرات ويجري التنافس بين الماكينات على تجنيد المندوبين وتوسيع الماكينات الانتخابية. التنافس ينتقل إلى داخل اللائحة الواحدة. لا صورة رسمية واحدة تجمع «أبطال» لائحة كسروان وجبيل المدعومة من التيار الحر، لعل رئيس الجمهورية ينجح في جولته المقررة غداً بجمعهم ضمن «كادر» واحد!
يُحرج فؤاد مخزومي منافسه سعد الحريري بحجز هواء تلفزيونه. يُجند ماكينة في العاصمة يمكنها أن تتولى الانتخابات في كل لبنان. نموذج بيروت موجود في زحلة مع وفرة المتمولين هناك، وعلى رأسهم ميشال ضاهر. الأمر نفسه يسري على نعمة أفرام في كسروان. لا يجنّد الأخير العاملين في مؤسساته وحسب، ولا يحجز مقاعد وفنادق للآتين من الخارج بين الثالث والسابع من أيار، بل صار بمقدور كل من قصّر في تسديد فاتورة كهرباء أو ماء أو قسط مدرسة أو قرض شخصي، أن يأتي إلى أحد مكاتبه الخدماتية متوسلاً، فيكون له ما يريده وعلى عينك يا دولة.
ممارسات بالجملة تخفي في طيّاتها عمليات شراء ولاءات من خلال توظيف الأب أو الابن أو الابنة في الماكينة لقاء بدلات تصل إلى ألفي دولار شهرياً بحسب عدد الأصوات التي يمون عليها كل مندوب. ظاهرة شراء المفاتيح الانتخابية صارت ظاهرة «وطنية» بامتياز، ومعظمهم هؤلاء صاروا متعددي الولاءات. يقول أحدهم لأقرب المقربين إنه يعمل اليوم في ماكينة فلان، لكنه في يوم الانتخابات سيكشف أوراقه لمصلحة خصمه الانتخابي!
يقول توفيق سلطان إنه لا في أيام المكتب الثاني، ولا في الزمن السوري، شهدنا ما نشهده في هذه الأيام. أجهزة المخابرات والأمن مجندة في عاصمة الشمال وباقي الأقضية الشمالية لمصلحة تيار المستقبل والتيار الوطني الحر. محافظ الشمال يقوم بجولات انتخابية، وعندما تصل الشكوى إلى وزارة الداخلية، يكون الجواب: لماذا لا تثيرون القضية في مؤتمر صحافي بدل الشكوى الخطية؟ يريد أحمد الحريري تناول صحن فول أو لعب «فتة ورق» في أحد مقاهي طرابلس، فتتجند الجيوش الجرارة له قطعاً للطرق وتأميناً للمواكب التي تبدأ ولا تنتهي. يضيف سلطان: تقدمت بطلب تجديد رخصة مسدس حربي إلى وزارة الدفاع على جاري عادتي منذ ثلاثين سنة، فكان الجواب أنني ارتكبت مخالفة في عام 1962، ولا يحق لي نيل رخصة مسدس!
التزوير علني ومكشوف، ونحن أمام استباحة كاملة، يقول توفيق سلطان، «والسبب شعور تيار المستقبل بأنه خسر جزءاً من جمهوره. لم يكتفوا بمقدرات السلطة. قرروا الاستنجاد بأجهزة مخابرات عربية... وسيأتي اليوم الذي نقول فيه كل الأشياء بمسمياتها الحقيقية».
من يسترجِع أحداث شهرٍ مضى، يُمكن أن يجمَع ملفاً مُفصّلاً أشبه بنشرة أمنية ـــ سياسية، يستطيع الراصد لها أن يلاحظ بسهولة أن الخطاب السياسي في فترة الانتخابات يطغى عليه التجريح والانحطاط، إذ تُجترح تعبيرات ذات رنين انفعالي عالٍ من جهة، ومن جهة أخرى، لا تخلو من لغة التهديد والوعيد. يزيد الطين بلة الحجم الكبير للاعتداءات على لوحات المرشحين الدعائية والمكاتب الانتخابية للوائح المتنافسة.
صارَ طبيعياً خبر الاعتداء بالضرب والشتائم على المرشحين في قلب مكاتبهم، كما حصل مع المرشّح سيزار معلوف في زحلة منذ يومين، مثلاً. كذلك خبر إطلاق النار بين مناصرين تابعين لجهتين مختلفتين، كان آخرها الإشكال الذي وقع بين شباب من تيار التوحيد والحزب التقدمي الاشتراكي عند مفرق الجاهلية في سرجبال. ماذا عن إشكال قصقص الذي تجرأ فيه شباب من تيار المستقبل على مرشحين ضمن لائحة منافسة في العاصمة؟ وماذا عن إشكال منطقة «كاراكاس» الذي اعتُدي خلاله على المرشح نبيل بدر أمس، ورُشق بالحجارة أمام أعين القوى الأمنية من دون أن تحرّك ساكناً؟ وماذا عن إطلاق النار في حارة الناعمة وبرجا ومناطق أخرى؟
طبعاً، مثل هذه الوقائع ظاهرة للعلن، لكن ما لا ترصده الأعين والإعلام يبقى أفدح بكثير من تلك المُعلَنة. لا تبدأ بالرشى التي يعرضها المرشحون على الناس، ولا تنتهي عند حدود استخدام القوى السياسية للأجهزة الأمنية من جهاز أمن الدولة، وصولاً إلى فرع المعلومات ومخابرات الجيش. هذا الأمر لم يُعد سرّاً، ولا شائعات أو تهم تُطلق جزافاً. فقد سخّرت السلطة السياسية هذه الأجهزة لمصلحتها بنحو فاضح وعلني، تضييقاً على مرشّحين معيّنين، وصولاً إلى الابتزاز والتهديد بفتح ملفات إذا لم ينسحبوا. استدعاء مناصرين للتحقيق معهم. ممارسة الضغط والترهيب على المفاتيح الانتخابية في عدد من المناطق لتطويعهم وتبديل ولاءاتهم. منع حجز بعض الأماكن الخاصة والتهديد بإقامة حُرم على من يجرؤ على تأجيرها للوائح معينة، خصوصاً في العاصمة. يُمكن هنا العودة إلى ما أثير حول جهاز أمن الدولة الذي يسعى إلى استجماع أصوات الناخبين لمصلحة لوائح من لون سياسي محدد.
لا تقف التجاوزات هنا. فحتى الذين يتولون مناصب في الدولة، أصبحنا اليوم نراهم على الشاشات يتصدّرون الصفوف الأمامية في المهرجانات الانتخابية. من محافظ الشمال رمزي نهرا، ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، والمدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير. فضلاً عن تسخير وزارات في كاملها لمصلحة التيارات والأحزاب السياسية. كيف لا، وأكثر من نصف الحكومة من المرشّحين للانتخابات، يتقدّمهم رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق. الكل يعمل لنفسه ولحزبه السياسي أو تياره السياسي. والبارز أن أكثر الأطراف «توتراً» هو تيار المستقبل الذي يفتعل مناصروه يومياً إشكالات متفرّقة في المناطق، ويضع رأسه في رأس المرشحين على اللوائح المنافسة له، ولعلّ التعدي والضرب وافتعال الاشتباكات خير دليل على ذلك.
هذا الجو لا يعكس ارتباك التيار الأزرق، بل يطرح أسئلة عمّا أظهرته بعض استطلاعات الرأي التي أجراها هو أو أجرتها شركات إحصائية لمصلحته وجاءت التوقعات والأرقام صادمة. التساؤلات باتت مشروعة اليوم: هل ما يجري هو مجرد إشكالات عفوية، أم أنها منظّمة بقدرة قادر وعن سابق تصور وتصميم، وهل هناك شيء أكبر يُعَدّ في الكواليس، للهرب من الوهن الشعبي والتنظيمي وحتى المادي، وبالتالي هل يتقاطع استشعار المستقبل بالخطر مع قوى أخرى وازنة إلى حدّ استخدام كل الأساليب والوسائل المتاحة، أو تلك المحظورة، وصولاً إلى ما لا تُحمد عقباه؟