مقالات مختارة
ابراهيم بيرم
ابراهيم بيرم
ليس في مقدور الحزب ولا سواه ان ينكر ان المعطيات المستجدة والدالة على قرب انصرام حبل التفاهم بين طرفين جمعهما في موكب واحد ومحور واحد قبل نحو 12عاما تفاهم مكتوب ومبوّب كان في حين ولادته خارج كل السياقات والحسابات، ولكنه صمد في وجه ضغوط وتطورات من كل جانب. ولعل اكثر هذه المعطيات والوقائع فجاجة الكلام الذي ورد اخيرا على لسان رئيس “التيار البرتقالي” الوزير جبران باسيل والآتي على دفعات متقاربة زمنيا. وهو ينطوي على مساس بأفكار كانت وما برحت من الثوابت العقيدية، لا سيما ما يتصل منها بشرعية وجود اسرائيل، مضافا الى ذلك كلام سرى خلال الايام القليلة الماضية وفحواه ان نهج الحزب وسياسته الخارجية يُدفّعان لبنان الثمن الكبير.
هذان التصريحان وأحدهما مصور (شريط تلفزيوني) وثانيهما موثق (مقابلة صحافية)، يكفيان وحدهما، اذا عُزلا عن اي سياق آخر، للمضي قدما الى استنتاج جوهره ان وريث زعامة الحالة العونية انما يمارس دور “كاوي القناعات” ويمهد السبل فعليا لفصم عرى التفاهم الذي شكل نقلة نوعية في المشهد السياسي في البلاد، خصوصا ان الكلام المقال لم يكن عفو الخاطر او وليد زلة لسان او استطرادا دغدغة ضمنية لمشاعر جمهور بعينه قيل في غرف خلف ابواب موصدة.
وهذا يعني ان ثمة قاعدة ينطلق منها اولئك المبشّرون بحلول زمن انصرام حبل التفاهم الذي اكسبته التطورات صفة تاريخية، خصوصا اذا ما اضيف (كلام باسيل) الى كلام اطلقه اخيرا، وتحديدا اثر تداعيات “شريط البترون”، بعض من يُدرَجون عادة في خانة العقلاء في قيادة “التيار البرتقالي”، والذي اتهم الحزب صراحة بالانحياز الفوري الى جانب رئيس مجلس النواب وحركة “امل” في اي خلاف حول اي قضية مهما كان حجمها بين التيار والحركة. وهو ضمناً تشكيك صريح بعدم التزام الحزب بمندرجات تفاهم 6 شباط 2006.
لا شك في ان امر الايحاء بقرب انفراط عقد ذلك التفاهم منذ استيلاده، وانه لا يتحمل الضغط طويلا في وجه السهام التي تنهال عليه من اكثر من جانب وتثخنه تجريحا، ليس جديدا على آذان الحزب وعلى كل الراصدين للموضوع، ولكن على بلاغة هذا الواقع فان ذلك لا يعني بالضرورة ان الدوائر المعنية في الحزب لا تقرأ بتمعن وتؤدة ما تنطوي عليه “الهجمة الباسيلية” من أبعاد وما تزخر به من دلالات ما ظهر منها وما استتر.
بالطبع كل المتابعين لسلوك الحزب و”باطنية” تعامله مع اي طارئ او مستجد يتصل به مباشرة، يدركون ان الحزب يأخذ وقته كاملا لاعطاء توضيح او تقديم تفسير او اطلاق استنتاج. فهو كما صار معلوما ليس من السهولة بمكان استدراجه الى دائرة الرد المنفعل الفوري او الرد الارتجالي. ومع ذلك فان ثمة متصلين بالحزب ينقلون عنه استنتاجا اوليا لكل هذا الصخب، فحواه ان الحزب يجد لهذا “السلوك الباسيلي” المستهجن ولا ريب، مبررات او دوافع خفية تنهض على الآتي:
– ان الرجل وبعد كلامه النوعي المشهود في الاجتماع الاخير للجامعة العربية في القاهرة، والذي بدا فيه وكأنه آتٍ من زمن الستينات، اي عصر نهوض مارد القومية والحمية العربية، خصوصا بعد المصطلحات والمفاهيم التي توسلها، تعرّض لحملة ضغوط خفية قاسية توعدت بان الامر لن يمر مرور الكرام، وانه لن يبقى من دون عقاب، وهو ما بعث فيه شعورا بان طريق بلوغه مطامحه السياسية صارت موصدة، فما كان منه الا ان بدأ حملة معاكسة لاسترجاع ما فقده من جهة، ولترسيخ انطباع يوحي بانه مستعد لـ”التكفير” عما يمكن ان يكون قد اقترفه، متوسلا ضمناً “مونة” قديمة وبمفعول رجعي على الحزب الذي له وحده صلاحية الرفض والاعتراض
– ان حاجة الحزب المعروفة للحفاط على التفاهم مع التيار تجعله يكتم ردة فعله السلبية المحتملة على كلام باسيل ويعتبره عارضا بفعل حاجات ملحة ودوافع قاهرة.
– امر آخر يعطي باسيل عذرا مسبقا او حكما تخفيفيا ينزل الكلام من مرتبة الجرم المقصود الى مرتبة الجنحة مع وقف التنفيذ، اذ ان الحزب وسواه يدرك ان مواقف باسيل المتسمة بالحدة متأتية بالاصل من دافع تثبيت الشرعية واثبات القدرة وجبه التحدي، سواء في داخل البيت الداخلي لـ”التيارالبرتقالي” او على مستوى صراعه الحاد لحصوله على المقعد النيابي الذي فلت مرتين من بين اصابعه. اذاً هو مستعجل وفي صراع مع الوقت، ومضطر الى إعلاء الصوت، والمستعجل والمضطر لهما دوما اسباب تخفيفية.
– تسقط الدوائر عينها من حسابها التفسير القائل بان باسيل بكلامه هذا انما يلبي رغبة حليفه المستجد “تيار المستقبل” في نطاق سعيه لاستدراجه (باسيل) الى قناعة ومواقف تؤسس لفصم عرى تفاهمه القديم مع الحزب على مستوى الممارسة والخطاب، انطلاقا من ان الرئيس سعد الحريري المبرر يوميا لصيغة تفاهمه الحديثة مع الحزب حاضرا ومستقبلا، ليس في وضع يتيح له الدفع في اتجاه صراعات واصطفافات جديدة، واستطرادا فرض قواعد لعبة سياسية مختلفة.
وفي كل الاحوال، ما زال “حزب الله” يقيم على اعتقاد ان التفاهم مع التيار لم يكن يوما “خسّيرا” بالنسبة اليه، اذ ان المواقف المشهود لها والتي اطلقها الرئيس العماد ميشال عون منذ اعتلائه سدة الرئاسة الاولى حتى اليوم، لا سيما ما يتصل منها بالدفاع عن دور المقاومة وتبرير بقاء سلاحها، اكدت للحزب بما لا يدع مجالا للشك انه لم يكن مخطئا اطلاقا عندما تمسك بعون مرشحه الحصري للرئاسة الاولى طوال ما يقرب من عامين ونصف عام ورفض كل العروض البديلة لهذا الخيار.
واستنتاجا، ان عين الحزب دوما مشدودة في كل مقارباته للامور والتطورات الى ما يخدم هدفه الاستراتيجي المعروف، وامام الحفاظ على هذا الهدف يهون الكثير من الاعتبارات ويسقط العديد من التحفظات. وعليه فان الحزب ما زال على اتم الاستعداد للذود عن التفاهم مع “التيار البرتقالي” وهو ذهب اليه مجبرا لكنه صار لديه قناعة لا يستغنى عنها.
والحزب يعرف تماما ان زعيم التيار الذي ابرم معه التفاهم ما زال حاضرا ويمارس كل قناعته، فضلا عن ان الحزب بفعل مراسه يضع نصب عينيه اهمية اكتساب الحلفاء والاصدقاء إن امكن وعدم التفريط بهم، واذا اقتضى الامر الحيلولة دون تحوّلهم الى اعداء.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار